عندما كتب غراهام فارميلو "أغرب الرجال: الحياة الخفية لبول ديراك".. استطاع بقدرة كبيرة ان يتجاوز صعوبات الحديث عن أدق العلوم وأكثرها صعوبة وتعقيدا¡ ليكشف لنا مسارات حياة وانجازات واحد من اعظم علماء الفيزياء النظرية في النصف الأول من القرن الماضي¡ ومؤسس بارز لعلم ميكانيكا الكم.. والتي كشفت المزيد من أسرار المادة على المستوى الذري¡ وقد أدت بعد سنوات قليلة منذ تلك الاكتشافات الى التفجير النووي.. ورغم توظيف تلك التقنية عسكرياً في حروب الإبادة والتدمير الشامل¡ إلا أن نتائج ذلك العلم الذي شهد تطورا وتسارعا في النصف الاول من القرن الماضي¡ قاد إلى بناء مفاعلات الطاقة الذرية¡ والتوسع في توظيف تلك الطاقة في العديد من المجالات الصناعية التطبيقية.
اللافت أن كثيراً من العلماء¡ والعباقرة¡ والمبدعين يميلون للعزلة¡ وتبدو بعض تصرفاتهم غريبة مقارنة بالناس العاديين.. وتحمل سيرة كثير منهم ملامح لحياة إنطوائية¡ وبُعداً عن الاختلاط.. وربما أيضاً نزعات نفسية ..
وكالعديد من العلماء والعباقرة¡ كان بول ديراك يملك نزعة انطوائية تحول دون بناء صداقات عميقة¡ ولذا ظلت علاقته بكثير من زملائه من الباحثين والعلماء هشة¡ ولم يسجل له في حياته سوى النزر اليسير من علاقات قدر لها ان تستمر. كانت حياته تدور في عالمه الخاص¡ وتكاد تتوزع بين عالمين: عالم فيزياء ميكانيكا الكم¡ وهواية المشي التي لا يمكن فصلها عن عالم الأفكار التي يسبح بها عقل ديراك طيلة وقته¡ للبحث عن حل لعقدة رياضية تفسر ظاهرة فيزيائية في هذا المجال العلمي المفتوح حينها على عالم الاكتشاف.
لقد بدا ديراك لمعظم من التقوا به غير منخرط في العالم¡ وغير منشغل بالشؤون العالمية¡ خاصة وان تلك المرحلة التي شهدت فورة نشاط وتطور فيزياء ميكانيكا الكم¡ كان العالم يقف على شفا نذير الحرب العالمية الثانية. وفي هذا يقول غراهام فارميلو: لم يكن لديه حاجة لمشاركة أفكاره مع الآخرين إلا إذا كانوا أصدقاء مقربين¡ بحيث إنه أعطى انطباعا بأنه غير مهتم بمصير الآخرين.. وبدا أنه لا يكترث بالحاجة للاستئناس بآرائهم.
هذه الصفة التي لازمت ديراك في حياته¡ لا تعني انه لم يكن مهتماً أو بلا ميول سياسية¡ ففي مرحلة مبكرة من عمره¡ كان ينظر لتجربة الماركسية في الاتحاد السوفيتي على انها قريبة من احلام البشر بالعدالة الاجتماعية¡ وزار العديد من المراكز العلمية في روسيا.. وأصبح يتردد عليها خلال فترة الثلاثنينات من القرن الماضي في إجازات علمية أو لإلقاء محاضرات في تلك الجامعات والمراكز البحثية.. إلا انه فيما بعد اصطدم بالرقباء السوفييت عندما كان يتم تحرير الترجمة الروسية لكتابه عن ميكانيكا الكم¡ حينما اعترض الناشرون على تعارض ميكانيكا الكم - حسب وصفه لها - مع المادية الجدلية. وظهر الكتاب فيما بعد في المكتبات بعد اتفاق صعب مع الناشرين والمحرر¡ وكان من السهل رؤية انعاكسات هذا الاتفاق في افتتاحية الكتاب¡ حيث اتسمت مقدمة ايفاننكو (المحرر) بالتمجيد على نحو تقليدي¡ لكن سبقها اعتذار من دار النشر ذكرت فيه انه برغم ان مادة الكتاب غير ملائمة ايديولوجياً¡ فإن العلماء السوفييت بحاجة الى استخدام الطرق الواردة فيه من اجل تقدم المادية الجدلية!! وتمنى الناشرون ان يأتي بعد ذلك تدفق مضاد للعلم الصحيح ايديولوجياً..
وقد عانى اصدقاء ديراك في الاتحاد السوفيتي بشدة عندما تغير موقف ستالين من العلم بصورة فجائية¡ من موضوع يستحق الدراسة لذاته إلى سلاح لمحاربة الرأسمالية.. وكان ستالين يبدي مع مرور الوقت عدم تسامح أكبر مع الحريات الأكاديمية.. إلى درجة أن وصفت الأكاديمية الشيوعية للعلوم نسخة هايزنبرغ من ميكانيكا الكم بأنها غير مادية¡ ولا تتسق مع النسخة الأكثر صرامة للفلسفة الماركسية للدولة..
وكذلك كانت الرقابة والتدقيق على العلم في ألمانيا النازية في تلك المرحلة أيضا¡ حيث كان الانحسار يضرب الاقتصاد بعنف.. والنازية تسيطر على الشارع الألماني¡ وقد تحولت مدينة "جوتنجن" كما يقول العالم بورن الذي كان يشغل منصب عميد الكلية فيها الى مدينة مضطربة بالاحداث السياسية¡ وكان النازيون الذين يشكلون حزب الأغلبية في الحكومة المحلية¡ والمؤتمر الطلابي¡ يصرون عن أن الفيزياء اليهودية لانشتاين كانت خاطئة ومؤذية¡ وبدأ بورن يفكر في أنه لا بديل لديه عن الهجرة. وهكذا يظهر في تلك المرحلة التي ترصد حياة ديراك¡ حجم التأثير الايديولوجي على العلم.. مما دفع العديد من العلماء الكبار للهجرة للولايات المتحدة الاميركية.
وفي سن لم يتجاوز الثلاثين وضع ديراك أعظم أعماله¡ بل وصل في هذا السن لرئاسة أكبر معمل للفيزياء النظرية في جامعة كامبريدج¡ ولم يبدُ على ديراك انه يمتلك كاريزما أستاذ كامبريدج المتميز. كان خجولاً ولم يكن له أي ميول خارج قاعة المحاضرات¡ ولم يشاهد في صحبة أي امرأة في سنه¡ ولم يبد أي اهتمام بالأطفال.. وظن كثير من زملائه انه ربما يموت عازباً..
واللافت أن كثيراً من العلماء¡ والعباقرة¡ والمبدعين يميلون للعزلة¡ وتبدو بعض تصرفاتهم غريبة مقارنة بالناس العاديين.. وتحمل سيرة كثير منهم ملامح لحياة إنطوائية¡ وبُعداً عن الاختلاط.. وربما أيضا نزعات نفسية ربما شكلت جزءاً من الشخصية العبقرية التي تهرب من المألوف¡ وقد تتصرف بطريقة غريبة ليس من السهل استيعابها!!
في سيرة ديراك لفت انتباهي عبارة أنشتاين وهو يقاوم فكرة نظرية الاحتمالات في ميكانيكا الكم.. كان أنشتاين أول من استنبط انه كلما قفزت ذرة بشك لتلقائي الى مستوى طاقة ادنى¡ لا تستطيع ميكانيكا الكم التنبؤ باتجاه الفوتون المتولد او الوقت المجدد لانبعاثه. كان أنشتاين على يقين من أن النظرية المرضية حقا يجب ان تتجاوز نظرية الاحتمالات وحسب¡ حتى انه راسل "ماكس بورن" قائلا (الله لا يلعب بالنرد).. وفي هذا إشارة مهمة بأن أنشتاين كان مؤمنا بالله¡ وبقوته العظيمة الناظمة للكون والمادة.. مما يجعل من الصعب ان يكون تفسير تلك الظواهر الفيزيائية خاضعاً للاحتمالات.




إضغط هنا لقراءة المزيد...