استصدار تشريع يسمح بتقسيم المساكن الكبيرة¡ سوف يوفر عدداً كبيراً من المساكن الجديدة¡ وسيساهم في حل أزمة الإسكان دون الحاجة إلى تمدد المدينة¡ وزيادة مساحتها..
التوجه العام في موازنات الدولة حتى عام 2020م هو تقليل الدعم الحكومي¡ أو توقف الدعم بشكل كامل عن الكثير من السلع الاستهلاكية¡ بما في ذلك الطاقة¡ وهذا التوجه لا يمكن أن نقول عنه إنه غير منطقي¡ بل كان من المفترض أن تنتهج الدولة مثل هذه السياسة منذ فترة طويلة¡ لكن غير المنطقي أن نرفع الدعم دون أن نصلح من الأنظمة التشريعية التي تساعد الناس على التكيف مع هذه التغيرات التي ستمس قدرتها على الإنفاق¡ أي أن أي سياسة لا بد أن يتبعها بدائل تسمح للناس بالتكيف معها¡ وتعديل أنماط حياتهم كي تستوعبها¡ لأنه إذا كانت السياسة "تصادمية"¡ ولا تتيح للناس أي خيارات سوى الخضوع لها¡ سيولد هذا ردة فعل داخلية غالبًا ما تكون موجهة ضد هذه السياسة لإفشالها. سوف أركز هنا على علاقة الطاقة بالعمارة والتشريعات العمرانية خصوصًا¡ إذا ما عرفنا أن العمران يستهلك أكثر من 80% من الطاقة الكهربائية¡ وبالتالي يجب التعامل مع هذا التغيير في أسعار الكهرباء بشكل "تشريعي"¡ حتى يتمكن الناس من مواجهة هذا التغيير الذي سيكون مكلفاً جداً¡ إذا لم يتم السماح للناس بإعادة تغيير مبانيهم¡ ومساكنهم¡ كي تكون ضمن الشرائح المنخفضة. والذي أقصده هنا¡ هو يجب تحرير العمران من القيود الحالية التي تكبله¡ وجعله أكثر قدرة على التكيف مع السياسات الاقتصادية الجديدة¡ حتى لا يكون هناك صدام بين الناس وبين هذه السياسات.
أي مراجعة تاريخية للنمو العمراني في المدن السعودية¡ سوف نكتشف أن المملكة مرت بفترة لم تفكر فيها الأسرة في تكاليف الطاقة¡ واعتقدت أن دعم "الكهرباء" ضمن الحقوق التي يفترض أن تقوم بها الحكومة¡ وستستمر إلى الأبد وبالتالي تشكلت ظاهرة عمرانية لا تبالي حقيقة بالمحافظة على الطاقة¡ فتضخمت مساحات المساكن¡ وظهرت المباني الزجاحية ذات المواصفات الرديئة التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة دون أي مبالاة¡ ومع ذلك ظهرت في الفترة الأخيرة حالة من "التململ" لدى أصحاب البيوت الكبيرة¡ نتيجة لارتفاع فواتير الكهرباء في شهور الصيف خصوصًا¡ وأن ظروفنا المناخية تحتم الاعتماد الكامل على التكييف¡ إضافة إلى رداءة التصاميم المعمارية¡ وعدم اكتراثها بالمحافظة على الطاقة¡ نتيجة لرخصها وتوفرها. ورغم أن كثيراً من المتخصصين أطلق تحذيرات عديدة خلال العقدين الأخيرين¡ حول قرب انتهاء عصر "الطاقة الرخيصة"¡ وأن هذا سيؤدي إلى كارثة عمرانية شبه أكيدة في المملكة¡ إلا أنه لم يلتفت لهذه التحذيرات أحد بما في ذلك المؤسسات الحكومية التي يفترض أنها تدير العمران¡ والآن نحن نقترب من مواجهة هذه الأزمة¡ ولم نتخذ بعد أي خطوات تسمح بالتحول والتكيف مع الظروف الجديدة.
فمثلا لا يحق لأصحاب البيوت الكبيرة تقسيم مساكنهم إلى وحدات سكنية أصغر¡ والحصول على عددات كهرباء مستقلة لهذه الوحدات¡ كي تبقى فواتيرهم في الشرائح المنخفضة. هذا التشريع المهم والمستعجل سيشكل حلاً "تحولياً" سيتيح للناس التكيف مع الوضع الجديد¡ ومن يريد تقسيم مسكنه¡ والعيش في مسكن أصغر¡ سيستفيد من الشرائح المنخفضة¡ ومن لديه استعداد دفع التكاليف الباهظة للطاقة فله الحرية الكاملة. هذا التشريع تقاومه شركة الكهرباء نفسها¡ فهي التي لا تحد من استصدار الرخص للوحدات السكنية الصغيرة¡ وإن كانت البلدية هي التي تصدر الرخصة¡ لأنه يبدو أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين شركة الكهرباء والبلدية¡ على الدفع بالاستهلاك إلى الشرائح الأكبر. لذلك من المهم أن يكون هناك تشريع مرن يسمح للناس بالاختيار بين التكيف مع الظروف الاقتصادية الجديدة¡ أو تحمل النفقات الكبيرة التي تحملها السياسات الحكومية الجديدة. إذا لم يتم إصدار مثل هذا التشريع¡ سوف تتشكل أزمة قريبًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعمراني¡ وقد نرى توجه كثير من الناس إلى تقسيم بيوتهم خارج النظام¡ وفرض هذا التقسيم على البلديات¡ علما بأن أي توجه عمراني غير منظم ومقنن¡ يؤدي إلى التشويه البصري¡ وما يصحبه من خسائر اقتصادية.
وبالطبع استصدار تشريع يسمح بتقسيم المساكن الكبيرة¡ سوف يوفر عددا كبيرا من المساكن الجديدة¡ وسيساهم في حل أزمة الإسكان دون الحاجة إلى تمدد المدينة¡ وزيادة مساحتها المكلف أصلاً والذي يثقل كاهل موازنات الدولة. والواضح بالنسبة لي أننا بحاجة إلى ثقافة تشريعية عمرانية جديدة تتناغم مع الرؤية الاقتصادية¡ فأنا مازلت أرى أن الرؤية على الورق تتطلب تحولا كاملا في المؤسسات التشريعية¡ وأقصد هنا في آلية استصدار التشريعات الجديدة¡ وتغيير التشريعات القائمة¡ وليس في مصادر التشريع. القرارات الاقتصادية لها تأثيرات جانبية عديدة¡ ومعالجة هذه التأثيرات تحتاج نظرة شمولية تنتج حلولا جديدة وخلاقه¡ تحقق التحول الاقتصادي¡ وتزيد من اعتماد المواطن على نفسه¡ وتحثه على الانتاج ولكن في الوقت نفسه تسمح له بالتكيف¡ فالهدف ليس كسر المواطن¡ وإثقال كاهله¡ بل فتح آفاق جديدة له كي يعمل ويبدع.
في أغلب دول العالم¡ الأنظمة والقوانين العمرانية تتكيف مع الظروف الاقتصادية الجديدة للبلد¡ فمثلا في بريطانيا تم السماح للناس بتقسيم مساكنهم الكبيرة وتحويلها إلى عدة وحدات سكنية مستقلة¡ وذلك عندما ارتفعت أسعار الطاقة¡ وبالطبع أصبح هذا النظام هو المرشد للبناء في الأحياء الجديدة¡ بحيث شجع الأسر الجديدة على تقبل فكرة المساكن الصغيرة التي تتناسب مع دخل الأسرة. التشريع دائما يرسي لثقافة اجتماعية واقتصادية جديدة¡ لذلك عندما يكون التشريع متخلفًا عن التحول الاجتماعي والاقتصادي¡ غالبا ما يكون هناك تشوهات ثقافية عميقة تطفو على السطح مع مرور الوقت¡ وقد يكون اكتشافنا لهذه التشوهات متأخرا جدا¡ وبدلا من أن نحل مشكلة¡ نكون صنعنا مشكلة كبيرة قد تكون أكثر تعقيدا.
لعل المهتم بدراسة أنظمة البناء لاحظ أنه في دول كثيرة أن هذه الأنظمة لا تحظى بالثبات الدائم¡ وهي عرضة للتغير كلما تطلب الأمر¡ وغالبا ما تتكيف مع حاجة الناس¡ وهنا مكمن الخطر عندنا¡ لأنه وكما يعرف الجميع تغيير التشريعات في المملكة بطيء جدا¡ لذلك كان من المفترض ألا نخطو أي خطوة في رفع الدعم قبل التحضير له على المستوى التشريعي. الضرورة تحتم أن نبدأ بوضع حلول تعالج الخلل في دخل الأسرة من الآن¡ وأول هذه الحلول تغيير أنظمة البناء¡ كونه العامل الأكبر المؤثر في تكاليف الطاقة¡ إضافة إلى تنويع وسائل النقل داخل المدن الكبرى.




إضغط هنا لقراءة المزيد...