الإنجازات الكبرى لا تقاس بحجم البناء ونوعيته وتعقيدات صيانته.. إنما تقاس بالوظيفة والدور¡ والجامعات المميزة في العالم قد لا ترى فيها هذه الفخامة¡ وكلفة البناء الضخمة¡ لكن تجدها جزءاً مهماً من عجلة إنتاج الأفكار وبراءات الاختراع والتطوير..
في أي مشروع تنموي.. تحت أي مسمى.. وتحت أي يافطة يأتي.. فطالما هو في خدمة التنمية الوطنية ويحمل أهدافا تصبو إليها الحكومة وينتظرها المجتمع.. وطالما يعالج قضايا لا بد من مواجهة استحقاقاتها.. فهو يظل عنوانا للإنجاز إذا أبصر النور ونعم الناس بخيره واستفاد المواطنون من عوائده.
وأعتقد أنه من المهم اليوم¡ تقديم جردة حساب تكشف عدد المشروعات خلال العقدين الماضيين¡ والتي قدر لها أن ترى النور وأن تؤتي ثمارها وأن يتواصل عطاؤها¡ وهي تكسب رضا المجتمع عن أدائها وأدوارها ومهامها.
كان لافتا خلال العقد الماضي ومع تنامي العوائد النفطية¡ أن برز على السطح ما يمكن أن يسمى بحمى "الاستراتيجيات" التي تستهدف مشروعات وطنية في المجال الاقتصادي والتعليمي والثقافي والاجتماعي.. ولست أعرف أن هناك من حاول أن يحصر تلك الاستراتيجيات ولا من يحاول أن يدرس مآلاتها ويكشف إلى أين وصلت وماذا تم فيها وأين توقفت وماذا كانت ثمارها¿
أما المشروعات التي بدأت ثم توقفت أو تراجع وهجها أو بدأ التشكيك في جدواها فعديدة¡ وإن كانت المدن الاقتصادية تمثل الظاهرة الأبرز لهذا النوع من المشروعات الكبرى.
وأيما وليت وجهك سترى العديد من المشروعات المتوقفة والمؤجلة¡ أو تلك التي بدت الشكوك تحوم حول جدواها وأهميتها¡ خاصة مع مرحلة انخفاض عوائد النفط وتراجع الدخل وظهور العديد من العوامل التي دفعت للانصراف عنها.
ليست المشكلة أن تنصرف عن مشروعات لا ينتظر أن تحقق الكثير في سلم التنمية الوطنية¡ المشكلة أن ثمة الكثير من المال والجهد أنفق في دراسات واستراتيجيات وتجهيزات ووظائف وعقود مما جعل منها ثقبا أسود يلتهم الكثير من الإمكانات.
أعتقد أن المعادلة الأهم في أي مشروع تنموي تتطلب توافر ثلاثة عوامل¡ أولها عوائد هذا المشروع التي يجب أن تدرس بعناية وفحص دقيق قبل أي خطوة لاحقة.. والأمر الآخر حسابات الكلفة التي يجب أن تكون بحدود الجدوى الاقتصادية وليست مجرد عنوانا للبذخ في الإنفاق حتى تحت عنوان مشروع وطني كبير.. الأمر الثالث الميزة النسبية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار¡ وهي مرتبطة بالموارد المحلية وثقافة السكان والجغرافيا وليست مجرد نقل مشروعات بالقص واللصق من بيئات أخرى وفي مجتمعات أخرى لوضعها كنموذج يمكن تعميمه في بيئة مختلفة واحتياجات مختلفة وموارد مختلفة وثقافة مختلفة.
وحتى على مستوى المشروعات الإنشائية والمرتبطة بالبناء شكلا ومضمونا يحدث الإخفاق في بعض الأحيان عندما يتم تجاهل الكلفة المتعاظمة للتشغيل والصيانة والوظيفة والدور.. فماذا يعني أن تبنى مشروعا تفوق كلفته المليارات على مساحة تفوق احتياجاته ووظيفته لينفق كل عام 10% من هذه الكلفة على الصيانة والتشغيل.. بينما كان بالإمكان أن يكون بناء يناسب الوظيفة¡ وقد لا تزيد كلفته دون تلك التصميمات المعقدة والدوائر الأكثر تعقيدا والمساحات المبالغ فيها على 10% من تلك الكلفة¡ وبقدرة مستدامة وميسرة في الصيانة والتشغيل يمكن أن يقوم بها مواطنون مؤهلون دون الارتهان لشركات الصيانة والتشغيل ذات العقود الباهظة.
الإنجازات الكبرى لا تقاس بحجم البناء ونوعيته وتعقيدات صيانته.. إنما تقاس بالوظيفة والدور¡ والجامعات المميزة في العالم قد لا ترى فيها هذه الفخامة¡ وكلفة البناء الضخمة¡ لكن تجدها جزءا مهما من عجلة إنتاج الأفكار وبراءات الاختراع والتطوير.. بالإضافة لدورها في التعليم الجامعي.. وما محاولة نقل تجربة ناقصة وغير مكتملة الأركان كأودية التقنية في جامعاتنا إلا مثال على حجم الفشل والتراجع.. فدائرة الإبداع لا يمكن أن تنفصم عن فهم القدرات وتقدير الاحتياجات وربط كل هذا بمقومات عالم الصناعة والإنتاج الذاتي المفقود.
في منتصف السبيعينات من القرن الماضي حدثت عملية تغيير كبيرة في ملامح المدن والحياة الاجتماعية والاقتصادية وترقت طبقات عديدة في السلم الاجتماعي.. كان ثمة مشروع واحد في ثلاثة لكن كان أثره كبيرا ومهما في إحداث نقلة نوعية بالغة الأهمية.
لقد كان الصندوق الصناعي والزراعي والعقاري¡ من أهم المشروعات التي ترتب عليها إعادة هندسة المجتمع والاقتصاد ووسائل الحياة.. ومهما كانت هناك من سلبيات إلا أن المرحلة كانت تتطلب مشروعا كهذا.. ولقد حقق نجاحا كبيرا ومشهودا وآثاره اليوم تشهد بهذا..
ومهما طرأ من تغييرات جعلت بعض تلك الصناديق غير قادرة على مواجهة التزاماتها تجاه الوظيفة التي أنشئت من أجلها في مرحلة مختلفة ولأسباب متعددة.. فهي كانت في مرحلتها المشروع الأبرز الذي غير كثيرا من المفاهيم ودفع بالكثير من نواحي الاقتصاد المحلي وأحدث تطورا كبيرا في نمط الحياة والمجتمع.. وهو في مجمله تطور إيجابي.
إن مشروعا واحدا ناجحا يطال أثره الإيجابي الإنسان في هذا الوطن.. لهو خير من الانشغال بكثير من المشروعات التي تبدو ذات بريق على الورق لكنها لا تقوى على مواجهة الحقائق على الأرض.. أما إرسال الوعود وعقد الندوات ومراكمة الدراسات دون تحقيق خطوات ملموسة في الطريق الطويل الشاق فسيكون من ثمارها فقدان الثقة..
كثرة الجعجعة لا تصنع طحينا.. المعول عليه قبل أن يتوافر القمح أن تتوافر الرؤى الواضحة لاستثمار هذا الدقيق في توفير شروط أفضل للحياة.




إضغط هنا لقراءة المزيد...