يقارب عالم الاجتماع العراقي الراحل¡ الدكتور "علي الوردي" شخصية المجتمع العربي باستصحاب مُسلَّمة من مُسلَّمات علم الاجتماع¡ ألا وهي أن أي مجتمع من المجتمعات البشرية¡ إنما هو كالفرد¡ يملك شخصية خاصة به¡ هي الشخصية المجتمعية¡ والتي تعرف في الاصطلاح العلمي¡ كما قال¡ باسم (Culture).. ومقومات هذه الشخصية ليست إلا قيماً محددة توجه سلوكها¡ وتحدد نظرتها للعالم من حولها.
تمد هذه القيم المحتقِرة للثقافة القانونية بسبب إلى قيم بدوية موغلة في القدم¡ قيم تمجد المنافسة بحد السيف¡ وليس بحد النظام أو الشرعº فليس في هذه القيم مكان لمبادئ العدالة والمساوة..
ماهي إذن¡ القيم التي تتحكم في الشخصية المجتمعية العربية¿
يرى الوردي أن القيم التي تتحكم في الشخصية المجتمعية العربية¡ قيم بدوية بامتيازº وهذه القيم تحدد نوعية تعاملها مع كافة مسائل الاجتماع البشري¡ بما فيها علاقة الأفراد بالسلطة¡ وعلاقتهم ببعضهم البعض.
ينبغي التأكيد بأننا لا نعني بـ(مصطلح البداوة) معناه الدارج¡ ذلك المعنى الذي يشير إلى البادية ساكني الصحراء¡ مقارنة بساكني المدن¡ وإنما نعني به قيماً معينة¡ يشار إليها في الاصطلاح الفلسفي المعاصر¡ بقيم "ما قبل الحداثة"¡ والتي تطبع سلوك العربي عموما¡ بدويا كان أم حضريا.
هناك خيط ينتظم القيم التي يتركب منها أي مجتمع¡ بحيث ينتج منها مركب جديد¡ هو المركب الكيماوي الاجتماعي¡ أو (الشخصية الاجتماعية).
اعتمادا على تلك المسلمة الاجتماعية¡ يتساءل الوردي: ما هو ذلك الخيط الذي ينتظم قيم الشخصية البدوية¿
في معرض إجابة الوردي عن السؤال آنف الذكر¡ يعمد إلى المقارنة بين الشخصية البدوية¡ والشخصية المناقضة لها¡ أي الشخصية الحضريةº ليقول بعد ذلك إن الشخصية الحضرية تعتمد ثقافة (الإنتاج)¡ بينما تعتمد الشخصية البدوية ثقافة (الاستحواذ).
تقوم ثقافة الإنتاج¡ في أبرز معالمها¡ على (قانونية) التصرفات الفرديةº لا أقصد بذلك التعامل القانوني الرسمي الذي تفرضه السلطة¡ وإنما أقصد به قناعة المجتمع بتقييد تصرفات أفراده¡ انطلاقا من أخلاقية أو عدم أخلاقية التصرف. هنا يورد الوردي حزمة من القيم التي يتصف بها الفرد العربيº منها التجافي التام عن تقييد تصرفاته بالقانونº وبدلا من ذلك¡ نجده يمجد قيم الاستيلاء بالقوة¡ وأخذ "الحق" باليد¡ وفرض الأمر الواقعº إضافة إلى استصغار من يقيدون تصرفاتهم بالقانون¡ بوصفها صفة ذميمة¡ لا ينبغي أن يتصف بها الفرد الحر الشجاع!
ولقد تمد هذه القيم المحتقِرة للثقافة القانونية بسبب إلى قيم بدوية موغلة في القدم¡ قيم تمجد المنافسة بحد السيف¡ وليس بحد النظام أو الشرعº فليس في هذه القيم مكان لمبادئ العدالة والمساوةº إنها قيم تجد سندا لها في مقولة الشاعر العربي القديم:
كأنا والسيوف مسللات
ولدنا الناس طرا أجمعينا
هذه القيم البدوية التي تطبع سلوك الفرد العربي تجد لها اليوم ما يسندها حتى من الأمثال الشعبية ومفردات التخاطب اليومي¡ من مثل قولهم: "الحق بالسيف والعاجز يريد شهود"º وقولهم: "الحلال ما حل باليد". وهنا لا تستنكف تلكم القيم تمجيد أخذ الحق باليدº وهي لذلك¡ تقيس الرجولة الكاملة بمقياس الغلبة والاستحواذ¡ فتراهم إذا أرادوا أن يمدحوا رجلا قالوا عنه إنه "سبع"¡ أي يأخذ حقه بذراعه.
ومن أبرز القيم البدوية التي تتحكم في سلوكنا اليومي¡ ما نعبر عنه بمثل دارج هو "جلد ماهو بجلدك جره على الشوك"º ولذلك نلحظ العدوانية التي يبديها كثير من الناس اليوم تجاه المرافق العامة¡ إذ يتعاملون معها بوصفها مجالاً مشاعاً لجره على الشوك! ونحن نشاهد هذا الجر على الشوك صباح مساء¡ سواء في الحدائق العامة¡ أو في الجلسات¡ أو في المباني العامة¡ أو حتى في البراريº فما إن تنتهي العائلة من التنزه في المكان¡ أو من استخدام المرفق العام¡ حتى يكون بأمس الحاجة إلى جيش من العمال لإصلاح ما خرب منه¡ وتنظيفه.
هل كان ابن خلدون صادقا عندما قال عن أجدادنا الرحل إنهم: "إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب¡ يهدمون الصروح والمباني ليأخذوا حجارتها أثافي للقدو"¿




إضغط هنا لقراءة المزيد...