يحذر كثير من الناس المساس بالغايات¡ ويخافون الخوض فيهاº لأنها عند الكثيرين أمور مسلمات¡ وقضايا من البدهيات¡ ومَنْ يخطر في باله مراجعتها¡ ويقوى عنده الشك فيها¡ ويظن بها الظنونº فعليه أن يُواجه سيلاً من الهجوم¡ ويترقّب جمعاً غفيراً من ردود الأفعال..
وزارة التعليم عليها عبء عظيم¡ ومسؤولية كبرى¡ فهي تنهض بثلاث وظائف¡ وتقوم بثلاثة أدوارº الأول التربية الجسدية¡ والثاني التربية الأخلاقية¡ والثالث التربية العقلية¡ وهذا ما يجعل الغاية التي تسعى إليها مزدوجة¡ والهدف الذي تريد تحقيقه متعددا¡ وما كان هكذا فالمهمة فيه أصعب¡ والعمل على نيله أعسر¡ ألا ترى أن ذلك يتطلّب منها أن تُحدد ثلاث غايات¡ وتدرسها بعناية¡ وتُعيّن وسائل تحقيقها¡ وتبذل جهدا في فحصها¡ ثم هي مسؤولة عن متابعة ذلك كله¡ وإجراء الدراسات الميدانية حولهº حتى تطمئن إلى سلامة اختيارها للغايات¡ وتوفيقها في وسائل تحصيلها.
وإذا استعرنا مقالة الأستاذ أرسطو في هذا الصدد¡ وأوردناها في السياق¡ وهي قوله: "عنصران هما للجميع قوام السعادةº الأول تعيين القصد¡ ووضع غاية الأمور موضعها¡ وثانيهما إيجاد الوسائل المبلّغة إلى الغاية"º رأينا أننا تبعناه في قوله¡ ومشينا على رأيه¡ وبقي علينا أن نأخذ منه موارد العطب وأسباب الخلل التي تُصيب الغايات ووسائلها¡ وهي عنده ثلاثةº الأول أن يكون الخلل في اختيار الغايات وتحديدها¡ والثاني أن يأتينا الخلل من تعيين وسائلها¡ والثالث أن يكون من هاتين معا¡ وفي هذا المعنى يقول: "فقد يوضع القصد أحيانا موضعه¡ ولكنهم يخطئون في العمل على بلوغه¡ وأحيانا يُوفقون إلى كل الوسائل المبلغة إلى الغاية¡ ولكنهم يخطئون في تعيين تلك الغاية¡ وأحيانا يُخطئون كلا الأمرين" (في السياسة).
حديث الأستاذ وصفة نظرية¡ تضع احتمالات الفساد الممكنة في الغايات ووسائلها¡ وتُوضح الأبواب التي يدلف منها الفساد إليهما¡ وتُبيّن وجوهه¡ وتُوجز لنا دروب النظر فيه¡ وما دُمنا في غالب الحال نرى الخلل كله¡ والعيب معظمه¡ في وسائل تحقيق الغايات التي اخترناها¡ ورضينا بها¡ ويبعد عنّا أن يكون ضعف ثمرة التعليم وهزال فائدته عائدا إلى خطأ في الغايات¡ وخلل فيهاº فنحن مضطرون بفعل واقعنا الثقافي أن ننصرف إلى الوسائل¡ وما يكون منها¡ ونضع جل جهدنا فيهاº لعلنا أن نحصد بهذه الوسائل غاياتنا¡ ونفوز بها¡ وهذا ما يجعل مساحة الإصلاح ضيقة¡ وميدانه غير رحب¡ فندور حول الوسائل وعيوبها¡ وتبقى الغايات بعيدة عن المساءلة وإعادة النظر¡ وربما كان معظم البلاء من قِبلها¡ وأكثره من نقصها.
يحذر كثير من الناس المساس بالغايات¡ ويخافون الخوض فيهاº لأنها عند الكثيرين أمور مسلمات¡ وقضايا من البدهيات¡ ومَنْ يخطر في باله مراجعتها¡ ويقوى عنده الشك فيها¡ ويظن بها الظنونº فعليه أن يُواجه سيلا من الهجوم¡ ويترقّب جمعا غفيرا من ردود الأفعال¡ والناس¡ مهما كانوا مهمومين بالإصلاح ومشغولين به¡ يُؤثرون السلامة¡ ويسلكون الدروب المأمونة¡ ويبتغون الصلاح من أيسر الوجوه وأخفّها مؤونة¡ ولعلهم ينفقون بهذه الطريقة أوقاتهم هباء¡ ويُضيّعون جهودهم¡ ويخسرون مدّخراتهم¡ ولا يعودون من رحلة الإصلاح إلا بمثل ما عاد به الناس قبلهم¡ وهي حصيلة ربما تُشبه حصيلة الأعرابي الذي خسر ناقته¡ وما كان عليها¡ وفاز بخفي حنين¡ وعاد بهما إلى أهله.
توجهنا إلى وسائل تحقيق الغايات¡ وأعدنا فيها النظرº فغيّرنا المقررات وبدّلنا المناهج¡ وجعلنا المدارس أنواعا¡ وبدأنا أخيرا بإنشاء مراكز مهمتها تطوير تعليم بعض المناهج¡ فهل كانت أو ستكون نسبة النجاح أكبر من ذي قبل¿ وهل قسنا حصيلة الطلاب بعد ما قمنا به من تبديل للمقررات¡ وتغيير للمناهج¿ وما وجوه التغير التي حدثت على الطلاب بعد جهود كثيرة في إصلاح الوسائل والسعي في تطويرها¿
حال الطلاب واقعة أمامنا¡ وشاهدة لنا أو علينا¡ والأستاذ أرسطو يقول: "والوقائع نفسها تُثبت البراهين العقلية"¡ وحالهم تحتمل ثلاثة احتمالاتº أن تكون أفضل من ذي قبل¡ وأن تكون مثله¡ وأن تكون أقل منه وأردأ¡ وأنا من خلال تجربة ضئيلة في التعليم¡ امتدّت أكثر من ثنتين وعشرين سنة¡ أميل إلى القول الثاني¡ ولا أستبعد الثالث¡ وأحب أن أصوغ وجهة نظري بما جرى في الوسائل بالطريقة التي ارتضاها وِلْ ديورانت حين قال: "وأستأذن القارئ في اتخاذ طابع شخصي في هذا الفصل¡ وأن أستعمل ضمير المتكلم المحبوبº لأن الأساليب والنتائج التي أقترحها ثمرة تجربة محدودة جدا¡ وأودّ أن أقدّمها كما هي عليه" (مباهج الفلسفة)º فأقول: إنني لم أرَ تحسنا في الطلاب الذين يأتون إليّ من التعليم العام¡ ولم أجد فيهم شيئا جديدا لم يكن في الذين كانوا من قبلهم¡ وأميل إلى أنّ ما جرى من توجه إلى الوسائل¡ وتغيير فيها¡ لم يُحقق الهدف الذي كان يحلم به الناس¡ ويصبون من خلاله إلى تدارك أخطاء تعليم مَنْ كان قبلهم.




إضغط هنا لقراءة المزيد...