تصميم مدننا الحديثة ظل مستجيبا لقوانين وعادات العائلة الممتدة¡ حيث كانت البيوتات الكبرى ذات الواجهات الرجالية تنظم علاقة المنزل مع العالم الخارجي¡ ويغور عميقا إلى الداخل شطر داخلي للنساء والأطفال والخدم.
كل شطر يمارس أنشطته بمعزل عن الآخر¡ ولا يلتقون إلا في لحظات خاطفة تعجز عن أن تصنع تجربة إنسانية مشتركة ومثرية¡ مما خلق برزخا عميقا مابين العالمين¡ وتنمو في داخل البرزخ حكايات وأساطير ومخاوف مصدرها الغموض والتوتر.
نظام العائلة الممتدة أصبح جزءا من قوانين المدينة ويسيطر على فضاءاتها¡ فيندر أن نجد ركنا يحتفي بالعائلة النووية من أب وأم وأبنائهما.
هذا الشكل المنشطر تشرعن تحته مصطلح الاختلاط الذي يعده بعض الفقهاء طارئا على المدونة الفقهية¡ وتقونن على المستوى المدني عندما أصبحت كل مرافق المدينة وساحاتها ومعالمها جزءاً من بيت العائلة الممتدة الخاضع لقوانين (مقلط الحريم/ مقلط الرجال)¡ يوم الرجال ويوم الحريم.
وظهر نوع من الاغتراب داخل العائلة¡ فالرجال لهم أنشطتهم¡ وهواياتهم¡ وأحاديثهم في حلقات رجالية عوالمهم الخاصة¡ والنساء في حلقات نسائية مستقلة يتعاطين الحياة من منظورهن الخاص¡ حتى أصبح الأب يستمتع بإجازاته وسفراته وحيدا¡ وتستقل الأم والأبناء بخيارات الترفية إما عبر السفر أو التنزه داخل مدينة لا تحتفي بالعائلة.
أذكر عندما كان أولادي أطفالا ذهبنا¡ إلى أحد المتنزهات في الثمامة¡ التي أعلنت عن عروض مائية للدلافين هناك¡ وكان مدرج العرض قد انشطر وفق قوانين العائلة الممتدة¡ فجلس أولادي مع أبيهم على ضفة¡ وعلى الضفة المقابلة جلست أنا وابنتي¡ وبين المدرجين وقف حارس الفضيلة مشرئباً ليتأكد أن الدلافين تلتزم بالخلق القويم¡ بينما أمضينا العرض أنا وأطفالي نلوح لبعضنا البعض عبر الضفتين.. أذكر لم نكمل وقتها العرض¡ وغادرنا¡ ونحن نفتش في تقويمنا عن موعد سفرتنا القادمة.
ذلك الفصل مارس جورا كبيرا ضد العائلة الصغيرة¡ وشطرها وشتتها وحجب عنها متعة التشارك في أرجاء المدينة¡ وأيضا مارس جوراً ضد المدينة نفسها التي لم تستطع أن تتشرب أخلاقيات العائلة¡ في آداب السلوك¡ والدماثة مع الآخرين¡ والنموذج السوي في التعامل.
الفضاء المحتفي بالعائلة فضاء صحي¡ فضاء متوازن¡ يسيطر عليه السمت والوقار¡ بقوانين الحشمة والمروءة كقيمة تحرص العائلة أن تقدمها كواجهة أمام أبنائها¡ وأمام المجتمع.
أعتقد أن أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المنظمون والإستراتيجيون والقائمون على الأنشطة مستقبلًا¡ هو خلق فضاءات صديقة للعائلة¡ فعبر المناخ العائلي تتوازن الأمور¡ وتتقلص الخروقات والانحرافات السلوكية.




إضغط هنا لقراءة المزيد...