عندما عينت ملحقاً في الجزائر كنت مهموماً بأمرين: الثقافة¡ والتاريخ الجزائري¡ بحكم كون الجزائر هي بلد المليون شهيد.. وقد وجدت في الجزائر ثقافة عربية رائعة في الشعر والقصة والرواية¡ وقد أذهلتني حماسة الجزائريين للثقافة العربية رغماً عن التأثير الفرنسي القوي والعميق.. وأما التاريخ فقد كنت مشغوفاً ببطولات وأبطال الجزائر مثل ديدش مراد¡ والعربي بن مهيدي وعميروش¡ وآيت أحمد¡ ويوسف بن خده¡ ومصالي الحاج وابن بيلا.. والذي سبق أن قابلته في أميركا في زيارة المكتب الثقافي وتحدثت بشغف معه عن البطولات الجزائرية.. وكنت عندما أسير في أراضي الجزائر الرائعة وجبالها الشامخة وأوديتها وشلالاتها وغاباتها الخضراء¡ تلفت انتباهي وتأخذني بطولات هذا الشعب العظيم¡ وأنا أرى بين مساحة ومساحة¡ بل أحياناً ما بين خطوات وأخرى¡ تلك النصب البيضاء التي كتب عليها أسماء الأبطال والشهداء¡ الذين استشهدوا هناك¡ إما في معارك¡ أو تم إعدامهم بعد القبض عليهم في نفس المكان.. وكان شيئاً مثيراً للعزّة والحزن معاً..
وكنت قد قابلت الكثير من الأبطال الذين مازالوا على قيد الحياة¡ وسجلت بعض أحاديثهم¡ وكنت أُعجب ببطولاتهم الخارقة وكفاحهم الوطني العجيب.. ولعل أعجب شيءٍ وأغرب ما مر بي في الجزائر.. أنه في ذات يوم دخل علي رجل جميل المحيا¡ يلبس ثياباً بيضاء وعمة بيضاء¡ وكان في منتهى الوسامة وقد جمله شيب لحيته البيضاء مع نضارة فيها كثير من الحيوية والشباب¡ وكنا قد أنشأنا مكتبة يؤمها الشبان الجزائريون.. كما كنا نوزع كثيراً من الكتب الثقافية فأيقنت أن الرجل جاء يبحث عن كتب.. وحينما جلس أخذ يثني على المكتب ويثني ثناء كبيراً على المملكة ودورها في حرب التحرير¡ فشكرته وأخذت أطارحه الحديث وأسأله عن أبطال الجزائر الأحياء.. فكان يحكي لي عنهم¡ ومن ثم سألته عن يوسف بن خده أول رئيس حكومة جزائرية بعد التحرير¡ وقلت له إنني في غاية الشوق لمقابلة هذا البطل.. فقال إنه بخير¡ فقلت له أين هو وماذا يعمل¿ فقال عاد إلى عمله القديم¡ فهو خريج صيدلة ولديه صيدلية يشرف عليها بنفسه¡ فقلت باستغراب يعمل صيدلياً¿! قال نعم أدى دوره الوطني في الكفاح¡ وهو يؤدي دوره الوطني الطبّي.. فقلت هل تستطيع أن توصلني إليه¿ فتبسم وقال وماذا تريد منه¿ قلت إنني معجب به وببطولته وأريد أن أراه.. فطأطأ رأسه ثم رفعه مبتسماً وقال: الذي يتحدث معك هو يوسف بن خده نفسه..! فقفزت من مكاني وقبلت رأسه وأنا لا أكاد أصدق لولا أن دخل علينا الزميل إبراهيم الصانع الذي عرفه فحياه واحتضنه.. ثم قلت للرئيس إننا في غاية السعادة بتشريفك لنا¡ وإننا على أتم الاستعداد لخدمتك¡ فقال: أولاً أنا أحب السعودية حباً عميقاً لمواقفها الرائعة مع التحرير¡ ثانياً إنني أريد أن يدرس ابني في المملكة¡ إن كان ذلك ممكناً فهذا سيضاعف من غبطتي حين يتخرج في جامعة من قلب بلاد العرب والإسلام..
ثم تابع: إن حبي للمملكة ليس عاطفياً فحسب وإنما هو مبني على مواقف كثيرة ومثيرة¡ سوف أذكر لك موقفاً واحداً كي تعرف مصدر هذا الحب على حقيقته ثم تابع قائلاً: عندما شكلنا حكومة المنفى في القاهرة.. طلب إلينا الرئيس عبدالناصر أن نحارب من يطلق عليها البلدان الرجعية ومن بينها المملكة فرفضنا ذلك رفضاً قاطعاً¡ فبدأ التضييق علينا فاضطررنا للانتقال إلى تونس.. ثم إن أعضاء حركة التحرير شكلوا مجموعة وفود إلى البلدان العربية والبلدان الصديقة¡ لمساعدة الثورة.. ورشحتُ لأرأس الوفد الذاهب إلى المملكة.. قال وجاءنا الترحيب سريعاً فسافرنا¡ وتم استقبالنا في المطار¡ ثم أنزلنا في فندق اسمه فندق اليمامة¡ وبعد المغرب جاءتنا سيارة من الملك لتنقلنا إلى الناصرية¡ ثم إن الملك سعود -رحمه الله- استقبلنا استقبالاً رائعاً¡ وتناولنا العشاء معه.. وكان مجلسه يغصّ بالناس¡ ثم إنه أشر إلينا فنهضنا إليه فأخذني بيده وكان معه الأمير فيصل -رحمه الله-¡ وسرنا إلى مختصر هناك¡ فلما جلسنا أردت أن أتحدث إليه وإلى الأمير فيصل فقالا: لا تقل شيئاً نحن نعرف أوضاعكم ونقف معكم بكل ما نملك.. ثم إن الملك فاجأنا بقوله: هذا شيك مفتوح ضعوا المبلغ الذي تريدونه!! قال: فظللت برهة مذهولاً لا أصدق ما سمعت وقد التفت إلى أعضاء الوفد فرأيت أحدهم يمسح الدمع من عينه.. قال: ثم إننا وضعنا المبلغ الذي نريد وبعد يومين¡ سافرنا رأساً إلى الصين فاشترينا العتاد الحربي الضخم الذي لعب دوراً حاسماً في معركة التحرير..
هذه شهادة رجل عملاق وبطل تحرير كان يصرخ وهو في قاع السجن: المجد للجزائر.. ثم صار أول رئيس حكومة جزائرية يعلن تحرير بلاده¡ ورحم الله الملك سعود والملك فيصل على هذا الموقف البطولي الذي سيظل يحتفظ به التاريخ¡ وأبقى هذه البلاد مصدر خير وفخر¡ وسنداً للعرب والمسلمين..




http://www.alriyadh.com/1668971]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]