«ستخرج هذه السيرة وفي نفس صاحبها شيء منها¡ وربما أشياء¡ وخروجها بهذه الكيفية دليل تمردها عليه¡ إذ إنها ضاقت ذرعاً بصاحبها وآن لها أن ترى النور¡ ويراها الآخرون»
(ع/ق)

في وقتنا الحاضر والذي يُشار فيه أدبياً وثقافياً بأنه يمكن أن يوصف بأنه زمن السيرة¡ حيث التوجه الذي يلاحظ في كثرة كتب السيرة الذاتية التي أصدرها أصحابها في كتب زاحمت الرواية في الآونة الأخيرة¡ وهذه الكتب متعددة المنابع والمصادر¡ حيث إن كتّابها ليسوا من الأدباء فقط¡ فقد شملت مفكرين¡ وعلماء وسياسين¡ واقتصاديين¡ ومعلمين/ معلمات¡ وقد هدف منها أصحابها أن تصور بعضاً من حيواتهم وتجاربهم بعد أن تجاوز بهم العمر عقوداً قضوا فيها يعملون في مجالات مختلفة¡ ولكل منهم نكهته في ممارساته وما رواه من تجارب غالباً ما يهدف منها أن تكون صورة صادقة يمكن أن يستفيد منها الآخر¡ كما أنها وهي تحمل السنوات الماضيات في كلمات تجيء في مثل هذه الحالات مليئة بالحنين إلى الماضي وتُذكِّر بأيام الطفولة¡ والشباب¡ والكهولة وما بعدها¡ حيث تتجسم الذكريات بوضوح في مرحلة الكهولة المتأخرة التي يكون فيها النضوج التام¡ والتكامل الذهني الصافي الذي بمقدوره أن يسجل من الذاكرة¡ وما دُوِّنَ كمذكرات إن كان قد اُعتني بها في بداية حياته العملية أو العلمية¡ أو خلالها¡ فهي في المجمل ستحمل المفيد حتى لو لم تكن شملت مجمل المراحل لأن هناك ما لا يمكن أن يُكتب¡ وهناك ما مُسح من الذاكرة.
(بين منزلتين) كتاب سيرة ذاتية للدكتور عبدالمحسن القحطاني¡ حمل بين دفتيه بعضاً من حياته العلمية والعملية¡ ولم أقل كلاً لأن كل ما كتب وبأي لغة في العالم من السير الذاتية لم يذكر أنها تمثل الحياة لكاتبها من (الألف إلى الياء) وهذا لا يستدعي الشرح لأن الكتابة فن راق ولا يمكن أن يحمل الكتاب إلاَّ ما صُفِّيَ وجرت تنقيته من الشوائب وما يمكن أن يؤثر في محتواه بالمراد¡ و د. عبدالمحسن انتقى مما اختمر في ذاكرته مما سمع في طفولته وما وعاه في أخرها¡ وصوَّر بجلاء الحقيقة بأسلوب المعلم العالم في تلك المراحل الحياتية بسرد منسق يشد المتابع بالصور التي رسمتها الكلمات بقدرة الأديب الشاعر واللغوي المتمكن¡ فوصفه لليتم وما يعانيه اليتيم بعد فقده لوالدته¡ وما وجده في أبيه من تعويض عن فقد الأم من ناحية الرعاية التي شمله بها وقربه منه روحاً وجسداً¡ ثم ما عمله الأب من أجل أن يكون ابنه من الناجحين في الحياة حسب قدرته المعرفيه (=الأب).
تمر مراحل الحياة بالكاتب وهو ينعم بحس فني وفكر طموح يقود إلى المستقبل ليس غيرةً من الأنداد ولكن برؤية فلسفية خاصة استخلصها من دراسته وتجاربه الحياتية¡ فهو المهتم بالعلم¡ وبأدبيات العلم¡ ولغة العلم¡ وهي واضحة في الكتاب سلسة سهلة عميقة تسودها العبارات البليغة التي تؤثر في المتلقى -كما أسلفت-¡ فقصة التحاقه بالمدرسة¡ وانقطاعه عن الدراسة ثم الوظيفة¡ وتركها من أجل مواصلة التعليم¡ وعدم القناعة بالتعليم الوسط¡ ورحلة البحث عن التعليم العالي¡ والتدريس في الجامعة¡ والتوجه للعلم معلماً ومتعلماً بالرغم من الفرص التجارية التي وكَّل أمرها إلى إخوانه¡ وزواجه من قريبته التي وجدها حين تاهت في موسم الحج ذات مرة وهي صغيرة وتكون من نصيبه بعد حين¡ وقصته الطريفة مع محاولته نحر أضحيته وهو الأعسر كيف أراد أن يقوم بنحرها مصالباً بين الذراعين وعزمه على أن ينهي الأمر إلا أن الأضحية تَفر بعد أن أحست بقرب الموت¡ ويساعده من هو مهيأ لذلك¡ وما هي المشاكل التي كانت في حيِّهم وماذا كانت الحلول التي يتولها سكان الحي بالتوافق فيما بينهم.
سيرة لم تكتمل بعد¡ حيث وقف الكاتب بعد أن حشر بعض الأحداث في الصفحات الأخيرة¡ ولكنه يعد بأن يكمل¡ وكما أرى أن لديه الكثير المنتظر.




http://www.alriyadh.com/1670514]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]