يخدمك الحظ والتوصيات في العالم العربي أكثر مما تخدمك خبرتك ومستواك وذكاؤك¡ فتُقَيَّم بحجم تلك التوصيات¡ وبمدى ثقل وزن مراجِعك¡ السياسية أو المالية أو القريبة من السلطة. ويُقَزَّمُ حجمك واسمك ونتاجك حسب خفة وزن من يقف خلفك. وأنت يوماً بعد يوم تتقلّص¡ وينطفئ فيك الشاب الطموح الذي كنته¡ وتخبو روحك كما لو أنك شعلة في مهب الرياح¡ فتخفض رأسك لتبقى حياً على الأقل¡ وتقبل بالمقص الذي يقلّم أجنحتك¡ وبالملعقة التي تحرق لسانك¡ وتأخذ مكانك في هامش الهامش¡ حيث تتواجد ولا تُرى¡ تعيش مثل أزهار الظل تحت الشجرة الوارفة التي تغطيك تماماً.
بعد سنوات من الترويض تنتهي إلى حالة غريبة¡ هي حالة يعيشها المفكر العربي والمثقف الحقيقي في هذه البلاد العظيمة المترامية الأطراف من المشرق إلى المغرب¡ فتصبح «الكائن الذي لم يكن»¡ وتكتشف بعد رحلتك الطويلة في أوحال العدم واللامبالاة أنك «اللا شيء» بشحمه ولحمه¡ وأنك كتلة من الأحلام المؤجلة¡ وقد بتّ تعرف أن تأجيل الأحلام سم تعاطيته على جرعات ضئيلة ليتحقق موتك¡ وحين تدرك تلك الحقيقة تكون قد أصبحت شاهداً على موتك¡ وما عادت الحياة تعنيك لا من بعيد ولا من قريب¡ وأنك بعد رحلة عمر طويلة عانيت فيها مرارة الأشياء كونك كاتباً أو مناضلاً مسالماً بقلمك وكلمتك¡ لست سوى الجزء الجميل من تلك اللوحة الكئيبة¡ الجزء الذي استغنى عنه الجميع وهم ينهشون قطع اللحم الطرية من جثة ما¡ أنت «الحثالة» الذي أُستُبعِد عن حفلة الشواء¡ رغم أنّك اجتهدت بشكل ما لتكون فرداً من المدعوين¡ تأنقت وابتسمت وصافحت وعانقت وصدقت كل الأقاويل التي قيلت لك والوعود التي قطعت معك¡ تصرفت كما لو أنّك واحد من «العائلة» إلى أن وجدت الباب موصداً في وجهك¡ كما يوصد في الغالب في وجه من يتأخر عن موعد الولائم من ذلك النوع.
بالطبع لست هيرمان ميلفيل ولا فرانز كافكا¡ ولا إدغار ألان بو¡ ولا حتى جين أوستن أوسيلفيا بلاث¡ لست بحجم هؤلاء¡ لكن عزاءك الوحيد أنك تكرر حيواتهم بشكل مختلف¡ فأنت ابن هذا العصر الذي يعج بوسائل الإعلام والتواصل ودور النشر الورقية والإلكترونية ومع هذا فها أنت تعيش مصيرًا حالكاً كمصائرهم في العتمة¡ والفاقة¡ والتهميش والسلخ¡ وصدقاً بينك وبين نفسك حين ترى أن كل معطياتك الجيدة لا مكان لها حيث أنت لن يخطر ببالك أنك خلقت لزمن وإبداعك لزمن آخر تماماً¡ زمن سيشهد نجاحك ولكنّك لن تشهد عليه.




http://www.alriyadh.com/1670536]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]