«إثراء» هذا المركز المدهش ليس في عمارته التي سبقت الزمن فقط¡ بل في فكرته ورسالته التي تعبر عن رؤية بعيدة تعاملت مع واقع المجتمع السعودي بذكاء¡ وحضّرت للتحول بهدوء منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً.
لم يدر بخلدي يوماً أن أشاهد عملاً موسيقياً عالمياً في بلادي¡ وفي الظهران على وجه الخصوص¡ كان هذا حلماً مستبعداً جداً¡ ولا يخطر على البال.
في ثاني أيام العيد استضاف مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في شركة أرامكو الأوركسترا الروسية «مارينسكي» بقيادة المايسترو «فاليري غيرغييف»¡ الحدث مهم من الناحية الثقافية والاستقبال الجماهيري له كان مفاجئاً بالنسبة ليº لأني لم أكن أتوقع أن يكون هناك جمهور سعودي أوركسترالي أو أوبرالي¡ لكن يبدو أن هناك الكثير المختبئ في ثنايا مجتمعنا¡ وأنه حدثت تحولات عميقة لم نشعر بها¡ فالجمهور المتذوق للفن الموسيقي الراقي موجود بينا ويتنفس الهواء الذي نتنفسه دون أن نشعر به.
في تلك الليلة قاد عازف الكمان المايسترو «هيرشكوفيتسكي» معزوفة الفصول الأربعة للمؤلف الموسيقي الإيطالي «فيفالدي»¡ علماً بأن الكمان التي يعزف عليها صنعت في العام 1713م¡ على يد الإيطالي «أنطونيو ستراديفاري» لقد شعرت أثناء العزف أن الجمهور بأكمله يتنفس بعمق¡ وأن هناك انتقالاً نوعياً في التفكير عبر عنه بعض الزملاء قبل أن ندخل قاعة المسرح¡ فالجميع كان ينتظر هذه اللحظة التي تؤسس لزوق مجتمعي كنا بحاجة لها منذ عقود. إحساس جميل خصوصاً أنني بين الفينة والأخرى أذكر نفسي أنني مازلت في الظهران¡ وعلى مسافة كيلومترات قليلة من منزلي.
«إثراء» هذا المركز المدهش ليس في عمارته التي سبقت الزمن فقط¡ بل في فكرته ورسالته التي تعبر عن رؤية بعيدة تعاملت مع واقع المجتمع السعودي بذكاء¡ وحضّرت للتحول بهدوء منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً. الفكرة كانت بناء مكتبة وليس مركزاً ثقافياً¡ وكان الرئيس السابق لشركة أرامكو عبدالله جمعة هو صاحب الفكرة¡ سانده في ذلك مجموعة من زملائه المخلصين الذين عملوا معه في تلك الفترة¡ منهم المهندس ناصر النفيسي (مساعد وزير الطاقة حالياً) والمعماريان عصام توفيق وفؤاد الذرمان. أنا أحكي هذه الأحداث من الذاكرة لأنه أثناء تحكيم المشروعات المتقدمة لهذا المبنى قبل عقد من الزمن تقريباً دعوتُ أحد المحكمين «ستانفورد أندرسون» وهو عضو هيئة تدريس في MIT إلى منزلي مع بعض الزملاء من أرامكو وتحدثنا طويلاً عن هذا المركز المهم¡ وكيف تحول من مجرد مكتبة إلى مركز سيقود العمل الثقافي في المملكة.
الحماسة التي أبداها الزملاء لفكرة المركز اختلط فيها الجانب الفكري والثقافي مع الجانب المعماري الذي يفترض أن يعكسه مبنى يقوم بدور «تحويلي» في المجال الثقافي¡ وفي مكان مهم من الناحية التاريخية¡ حيث يوجد أول بئر نفط مكتشف في المملكة¡ ومن الناحية الطوبوغرافية¡ فهو يقع على مشارف تلال الظهران كما أنه من الناحية الجغرافية يمثل بوابة لحاضرة الدمام من مدخلها «الظهراني». الدور والوظيفة يفرضان حضوراً معمارياً وبصرياً مختلفاً عن المعتاد¡ وإلا لن تصل الرسالة إلى الجمهور الحذر والمتعطش للثقافة في آن واحد. في ذلك الحوار مع الزملاء ترددت عبارة «التحول الثقافي» كثيراً خصوصاً لفئة الشباب بين الخامسة عشرة¡ والثامنة عشرة من العمر¡ ويبدو أن هذه الفئة هي الرابطة بين الطفولة والشباب¡ وأثناءها تتشكل معالم الشخصية الثقافية للإنسان وهي الفترة التي تبدأ فيها الاختيارات الصعبة لمهنة المستقبل.
العمارة المدهشة لمركز «إثراء» هي جزء من التحول في الذائقة البصرية المعمارية كما أنها الجزء غير المباشر في الدعوة للتحول للثقافي الذي بدأ به «إثراء» قبل أن يصبح المبنى واقعاً معاشاً بسنوات. فكرة المشروع ليست بناء مبنى أيقوني¡ بل بناء مجتمع واعٍ يملك ذائقة وفكراً وثقافة¡ لذلك بدأ البرنامج قبل المبنى¡ وعندما أصبح المبنى جاهزاً كان الجمهور العميق حاضراً ومستعداً. تحدثت مع الزميلة العزيزة المعمارية فاطمة الراشد¡ وهي إحدى قيادات المركز منذ أن كان فكرة حول «وماذا بعد»¡ ماذا سيقدم «إثراء» في الفترة القادمة فقالت: «الكثير» لأنه سيكون مفتوحاً للجمهور ستة أيام في الأسبوع¡ وستكون متاحفه ومكتبته ومسرحه وقاعة السينما والمعارض المصاحبة متاحة يومياً فهو أشبه بالعرس الثقافي الدائم الذي سيتيح لأبناء المنطقة الشرقية والمملكة حاضناً معرفياً مستمراً عاليَ الجودة.




http://www.alriyadh.com/1689007]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]