الضجيج التقني الذي يهيمن على حياتنا اليوم يوسع من اهتماماتنا¡ لكنه في الوقت نفسه يجعل قدرتنا على إنجاز الأشياء محدودة جداً¡ إنه يجعلنا في حالة خواء وسطحية رغم ما قد يعتقده البعض عنا أننا واسعو الاهتمام والتواصل..
لعل أكثر الأسئلة إلحاحاً في وقتنا الراهن هو كيف نتعامل مع هذا الضجيج المستمر الذي صارت التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي تسببه لنا. هل ما يحدث الآن هو فعلاً ما سيجعل الإنسانية تتقدم وتتطور أم أن لما يحدث وجهاً آخر لا نعلمه¡ لكنه صار ينمو ويتضخم دون أن نشعر به¡ وأخذ يهيمن علينا دون قدرة منا على مقاومته. آخر ما وصلني على مستوى التقنية هي السماعات الخاصة بشركة غوغل التي سوف تجعل الناس من شعوب ولغات مختلفة تتحدث مع بعضها من خلال ترجمة فورية. هل الإنسان بحاجة إلى كل هذا «الضجيج» في حياته حتى يكون سعيداً ومستمتعاً بحياته¿ أخشى أن ما يحدث الآن سيفقد الإنسان المتعة¡ وسيجعله يخسر الفضول المعرفي¡ وقد يؤدي هذا على المدى الطويل أن يجد كثير من الناس أنفسهم دون مهارت تمكنهم من التعلم لأنهم خسروها مع مرور الأجيال.
هذا الضجيج التقني له مساوئه الكثيرة التي تزاحم إيجابياته¡ والقلق الذي يساور الإنسانية هو أن معنى الحياة نفسه يتلاشى وتصبح حياة كثير من الناس دون أحلام.
إحدى المسائل المرتبطة بمعادلة الإنسان الأسطورية أنه خلق بتوازن وبقدر¡ وأن كل ما يخل بهذا التوازن يؤدي إلى خروج الإنسان عن النمط الذي جعله يصنع الحضارات العظيمة عبر تاريخه¡ وبالتالي عندما تحل التقنية محل المهارات الطبيعية والعفوية التي أودعها الله في الإنسان سيخسرها مع مرور الأيام¡ فالقول السائد «إما تستخدم المهارات أو تفقدها»¡ هو قول نشأ من مراقبة قدرة الإنسان على التكيف الإيجابي والسلبي. من خلال دراسة تطور المعارف المحلية التقنية knowhow تشكلها وتطورها¡ بقاؤها واختفاؤها¡ تبين أن قدرة الإنسان الإبداعية بقيت واستمرتº لأنه كان يستخدم مهاراته وعقله والتراكم الفني والتقني الذي اكتسبه لتوليد معارف محلية جديدة. وهذا للأسف الشديد لا ينطبق على التطور التقني الأخير الذي هو ملك فئة محدودة من البشر¡ ويعمل بكل هدوء وإصرار على القضاء على كل المعارف المحلية الأخرى التي اكتسبها الإنسان عبر تاريخه الطويل.
سألت نفسي عما هي الإضافة التي قدمتها لي تقنية الاتصال الحديثة¡ وهذا سؤال قد تختلف الإجابة عليه حد التناقض¡ لكن إجابتي الشخصية هي أن وسائل الاتصال الاجتماعي أحدثت لي تشويشاً كبيراً جداً¡ وقللت من قدرتي على التركيز¡ وحملت هموم العمل معي في كل مكان¡ كما أنها جعلتني أهتم بأحداث صغيرة بعيدة جداً عن اهتماماتي الشخصية¡ فتراجعت قدرتي على إنجاز الأشياء¡ وقلّت قدرتي على تحمل المهام التي تحتاج إلى تركيزº لأن هذه الوسائل لا تنفك تشوش على هدوئي وتركيزي.
قد يرى البعض أن هذا كان خياري¡ وأنا أملك قرار ترشيد استخدام هذه الوسائل¡ لكن في الواقع إن «تنميط الحياة» كي يتماشى مع أسلوب التواصل الجديد صار يغلب القرارات الفردية¡ وأصبح جزءاً أساسياً من هوية الحياة الجديدة¡ وفي اعتقادي أن هذا هو الخطر الأكبر الذي سيجعل من قدرة الأفراد أقل بكثير على الإنتاج المركز¡ وبناء المعارف التقنية المحلية¡ وبالتالي ستهيمن الجهات التي تملك المعرفة في الوقت الراهن أكثر وأكثر¡ وستصبح البشرية رهينة في أيديهم¡ وسيصبح الإنسان أكثر بدائية في ما يخص معارفه المحلية¡ وإن كان يبدو ظاهرياً لديه قدرات كبيرة على استهلاك التقنية والمعارف التي تقدم له بسهولة ودون بذل أي جهد وتفكير.
هذه ليست مبالغات بل هي توقعات أقرب إلى الحقائق¡ لأنها ستؤثر على مستقبل الدول في المستقبل¡ فصعود بعض الأقوال التي تؤكد على «هيمنة التفاهات» يشير إلى تنامي خلل القدرة على هضم الأفكار والأعمال العميقة¡ ونقل الاهتمام بإنتاجها إلى جهات أخرى¡ حيث أصبح أغلب الناس لا يعنيهم كيف تنتج الأفكار العظيمة¡ وكيف تصبح جزءاً من الواقع طالما أنهم يستطيعون استهلاك هذا الواقع والاستمتاع به مؤقتاً. الضجيج التقني الذي يهيمن على حياتنا اليوم يوسع من اهتماماتنا¡ لكنه في الوقت نفسه يجعل قدرتنا على إنجاز الأشياء محدودة جداً¡ إنه يجعلنا في حالة خواء وسطحية رغم ما قد يعتقده البعض عنا أننا واسعو الاهتمام والتواصل.




http://www.alriyadh.com/1701884]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]