الوطن ليس شعارا¡ ولا مزايدة¡ ولا انتماءات فكرية.. فالوطن هو حيث نولد¡ ونعيش¡ ونموت¡ ونكسب رزقنا.. هو الموقع الذي مات فيه أجدادنا¡ وسيعيش فيه أحفادنا¡ وتتراكم فوقه إنجازاتنا.. ارتباطه بالجذور والهوية والتاريخ¡ أعظم من ارتباطه بالسياسة¡ والأشخاص¡ واعتراف العالم بوجوده.
هناك ثلاثة مفاهيم أساسية يجب أن نفرق بينها لندرك قيمة الوطن فعلا.. الأول هو مفهوم الحكومة.. والثاني مفهوم الدولة.. والثالث مفهوم الوطن..
صحيح أنها قد تتقاطع (ويستعملها البعض بنفس المعنى) ولكنها تظل مستقلة - ويفترض التفريق بينها..
فالحكومة هي الجهاز الإداري الذي تعينه الدولة أو المجالس النيابية لإدارة شؤون البلاد..
أما الدولة فهي الهوية والكيان المعنوي الذي يرعى شؤون الوطن ويمنحه هوية وتميزا..
لهذا السبب يمكنك انتقاد الحكومة أو التصريح بعدم رضاك عن أدائها (كونها في النهاية جهاز إداري قد ينجح أو يفشل في تحقيق طموحات المواطنين). ولكن لا يمكنك في المقابل معارضة دولة شرعية تمثل هوية الوطن وترعى شؤون المواطنين ويرتضي أغلب الناس وجودها..
أما الوطن فكيان جغرافي لا دخل له بالسياسة ولا يحتاج لمن ينفي أو يؤكد وجوده.. لا يحتاج لاعتراف دول العالم (كاعترافها ببعضها) لأنه يحظى باعتراف أهله وسكانه ومن يعيشون فوقه.. يسكن قلوبهم ويوحد مشاعرهم ويبرز هويتهم ويشكل ثقافتهم.. علاقة الناس بأوطانهم علاقة وجدانية متجذرة يصعب التنصل منها بحيث لا يمكنك (حتى لو ادعيت ذلك) انكار ارتباطك بوطن ترسمه الجغرافيا ويشكله التاريخ.. تملك حياله حقوقا وواجبات ليست معنية بتقلبات السياسة أو اداء الحكومات أو تغير المسؤولين..
المشكلة في عالمنا العربي هي وجود خلط بين مفهوم الحكومة والوطن.. لا يتردد البعض في تدمير وطنه لعدم اتفاقه مع حكومة بلده.. المواطن الواعي قد يختلف مع حكومته (وقد يعمل على إسقاطها في الدول الانتخابية) ولكن ولاءه لوطنه يظل ثابتا وغير مرهون بالأداء السياسي..
صحيح أن الدول قد تشكل الأوطان وترسم هويتها (كالدولة السعودية التي رسمت وطننا الحالي).. وصحيح أيضا أن أوطانا قديمة أصبحت للبعض أوطانا جديدة (كأميركا التي كانت موطنا للهنود الحمر¡ وأصبحت موطنا لمهاجرين كثر) ولكن علاقة الفرد بوطنه تبدأ بمجرد ولادته فوقه¡ واقتسامه خيراته ومكتسباته.
البعض (في السعودية) يتحسس من مفهوم الوطنية خوفا من طغيانها على مفهوم الانتماء للأمة الإسلامية (والعربية بنظر القوميين العرب).. ولكن الحقيقة هي أن العلاقة بينهما تكاملية تبدأ من الخاص (الوطن) نحو العام (الأمة).. لا تعارض بينهما كون الانتماء للوطن لا يعني إنكار هويتنا العربية والإسلامية.. ليس أدل على ذلك من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذي بعث للناس كافة) كان يفتخر بقومه وعترته وورد عنه قوله: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى هاشماً من قريش واصطفاني من بني هاشم»..
من أجل هذا كله يصبح احتفاؤنا بالوطن حقا مشروعا لا يتعارض مع انتمائنا للأمتين العربية والإسلامية - ولكن أولى لك فأولى.. احتفاؤنا السنوي بيومنا الوطني يعزز هويتنا¡ ويعمق جذورنا¡ ويقزم اختلافاتنا¡ ويزيدنا قوة وتماسكا..
فالوطن -في النهاية- هو حيث نولد¡ ونموت¡ ويعيش أحفادنا¡ وتتراكم فوقه إنجازاتنا..
وكل عام والوطن بخير..




http://www.alriyadh.com/1706340]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]