قبل سنوات اضطررت أن أذهب إلى مستشفى لاستلام جثة قريب توفي في حادث مرور¡ دلني موظف الاستقبال على طريق الثلاجة التي يحتفظ المستشفى فيها بالجثث. قال كلامه دون أن يرفع رأسه عن أوراق بين يديه¡ يمين شمال على طول حتى تبين في خيالي موقع ثلاجة الموتى¡ أحسست أن موظف الاستقبال رجل لا مبالٍ. كأني سألته عن عيادة أو مكتب أو بوفيه¡ تركته دون أن أوليه أهمية فمشاعري تجول في مكان آخر.
في كل خطوة أقترب فيها من الثلاجة تتسامى في داخلي هيبة الموت¡ ما الذي ينتظرني هناك¡ بلغت غاية التوتر والانفعال لحظة مروري من بوابة حديدة مضاعفة السماكة¡ دقائق حاسمة¡ البرودة تملأ المكان كأرض لم تطأها أشعة الشمس من قبل¡ لا حاجة لسكانها بالضوء أو الظلمة على أي حال¡ المكان مضاء بالفلوريسنت الأبيض¡**خُيل لي أن هذا الشكل الخامل من النهار هو ما يعيشه الموتى في المقابر ولكني كنت أعرف أن المسألة مشاعر فائضة¡ الفلورسنت الأبيض موجود في كل البيوت وفي كل مكان.
شاهدت رجلاً يجلس على مكتب حديدي متواضع يخلو سطحه من الأوراق أو المعاملات ويخلو حتى من كوب شاهٍ أو قهوة¡ من يكون هذا غير أن يكون مدير إدارة الموت¡ إنه ابن الحزن الدائم¡ اشفقت عليه. ضيوفه ومراجعوه حزانى وبعضهم تمتلئ عيونهم بالدموع¡ بشر في لحظة تحطم القلوب¡**أصبح الأمر غريباً في نظري عندما نظرت إلى أدائه وتصرفاته¡ تكلم معي كأنه يتكلم عن استلام طرد أو بضاعة¡ يقوم بعمل روتيني¡ يتصرف كما يتصرف أمين مستودع في معرض أثاث أو أجهزة¡ وزاد استغرابي أن ألمح أن أنقده قليلاً من المال نظير اعتنائه بجثة الفقيد¡ يريد حق الشاهي كما كنا نسمي هذه العطايا التي هي أقرب إلى الرشوة¡**يحاول أن يوحي لي أن جثة فقيدي نالت عناية لم تنلها جثة أخرى¡ اتضح أن الرجل يلعب على المشاعر في سويعاتها الأليمة. أهل الفقيد وأحباؤه في عالم يطمره الحزن والغياب ويسهل ابتزازهم عاطفياً¡ امتلأ فمه بعدد من العبارات الدينية يرددها كلما شعر أن عاطفتك تريد أن تخف¡ تخرج الكلمات من فمه بشكل ميكانيكي تؤكد أنه رددها مئات المرات حتى انطفأت حساسيتها في قلبه ووجدانه فأصبحت كأنها رماد يتطاير من فمه لا دين فيها ولا إنسانية.
أتممت الإجراءات ثم خرجت. طاف بي سؤال: من هم هؤلاء¿ أمين ثلاجة الموتى أو حفار القبور أو مغسل الموتى أو منفذ عقوبة الإعدام¡ إنهم بشر مثلي ومثلك ولكن الموت¡ حتى الموت يفقد سطوته بالاعتياد.




http://www.alriyadh.com/1717368]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]