ذهب الدكتور رشيد الخيّون في بحثٍ عن (الفقهاء والسرقات الأدبية) إلى أنّ تهاون الفقهاء القدامى والمعاصرين في تجريم السرقات الأدبية والفكرية¡ أو «المال الفكري» كما يُسمّيه¡ ساهم مساهمةً واضحة في استمرار هذه الظاهرة وتفاقمها على مرّ العصور¡ فقد انصبَّ اهتمامهم قديماً وحديثاً على السرقات العينية وعلى سرقة المال التي جاء حكمها صريحاً في القرآن الكريم. وعلّل الخيّون ذلك التهاون بتساؤل قال فيه: «كيف يُفتي الفقهاء في سرقة الشِّعر¡ أو النَّص الإبداعي¡ وهم ينظرون في النصّ القرآني والشُّعراءُ يَتّبِعُهُمُ الغاوون. ألم تَرَ أنَّهُم في كُلِ وادٍ يهيمونَ. وأنَّهم يقولونَ مَا لا يفعلونَ . وأن وراء الشِّعر والأدب شياطين»¿!
وقد أورد الخيّون أمثلة للتدليل على تهاون الفقهاء¡ وتسامحهم أحياناً¡ في موضوع السرقات حتى لو كانوا هم أنفسهم من ضحاياها. وبغضّ النظر عن صحة ما ذهب إليه فلا يمكن تحميل الفقهاء وحدهم مسؤولية انتشار السرقات الفكرية والأدبية¡ إذ يمكن للناظر أن يجد العديد من الشواهد التي تؤكد¡ أو توحي¡ بتهاون أطراف أخرى في هذه القضية¡ ففي مُصنّف نقدي قديم مثل (نضرةِ الإغريض في نُصرة القَريض) للمظفّر العلوي (تـ656هـ) تقابلنا عبارة «المحمود من السرقة»¡ يورد فيه العلوي عشرة وجوه من السرقة المحمودة يُتبعُها بعشرة وجوه أخرى من السرقة المذمومة¡ ويقول في ختام حديثه: «هذه وجوه السرقات قد حَدَرتُ لكَ لثامها¡ وألقيت إليك زمامها¡ فقلَّ أن تجد من يعرفُ أقسامها¡ أو يستمطرُ غمامها¡ ولا تجدُ إلاّ مَن إذا ظفِر ببيتٍ مسروقٍ لم يدرِ أمِن المحمودِ هو أم من المذموم¡ وهل شاعرهُ بالمعذور فيه أم الملوم».
وأعتقد أن من يقرأ كلام العلوي عن أوجه «السرقة المحمودة» في الشعر وقِلّة من يستطيع تمييزها عن المذمومة يستشعر نبرة التسامح في كلامه. وربما وجد السارق نفسه راحةً في الضمير حين يعرف أن جريمته قد تُعامل على أنها «نصف سرقة»!
وفي الشعر الشعبي أيضاً شهدت لغة الإدانة والهجوم على لصوص الشعر تحولاً واضحاً¡ ففي الأبيات التالية يُقدّم الشاعر محمد الذرعي بعض العزاء للمبدع الذي لا تكاد قصائده وأبياته تسلم من الإغارة والاختطاف¡ يقول:
يكتب من الشعر ما يلقى القبول
ومن معانيه ايتنقّى ما لطف
كل بيت «إبداع» يدعو للذهول
وكل «فكره» تغري انها تُختطف
ويشتكي من سرقة أشعاره وأقول:
«الزهر لولا جماله ما انقطف»
إذاً فالمشكلة لم تعد في «السارق» الذي يعاود ارتكاب جريمته¡ بل أضحت في «المسروق» الذي يُغري الآخرين بجماله الطاغي والمكشوف¡ فالقصائد الجميلة كالأزهار الرقيقة تُغري الأيدي بقطفها وشمّها من دون تأنيب ضمير. وكما نلاحظ فالسارق لم يعد ذلك المجرم الذي يستحق الهجاء والعقوبة¡ فهو مجرد «قاطف زهور» يتمتع بذوق رفيع¡ وربما اتّبعُ نصيحة الكتاب المشهور: «اسرق مثل فنّان»!




http://www.alriyadh.com/1744454]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]