في حوار قديم وممتع¡ يعود تاريخه إلى عام 1396هـ¡ يسأل الإعلامي الكبير الدكتور عبد الرحمن الشبيلي ضيفه الراوي علي الفهد السكران عن عدد المرويات الشفهية التي يحفظها¡ فيجيب الأخير بإجابة جميلة يصف فيها طبيعة حضور المرويات في ذاكرة الراوي¡ فقد جاء في سياق إجابته أن «السواليف مثل الشيء المدفون في الأرض»¡ ويوضح فكرته بالقول إن القصص والقصائد التي تسكن الذاكرة كثيرة¡ لكنها تحتاج في بعض الأحيان إلى «بيان» أو علامة تُساعد على الاستدلال عليها ونفض الغبار المتراكم فوقها بفعل الزمن¡فبعض القصص والقصائد قد تغيب عن ذهن الراوي في فترات مُعينة لحظة طلبها منه¡ لكنها لا تختفي من الذاكرة تماماً¡ بل يمكن استخراجها سريعاً في لحظات صفاء ذهني غير متوقعة¡ وحين يجد الراوي العلامة التي تقوده إلى «الكنز المدفون» في أعماق ذاكرته.
يتمتّع الرواة الشعبيون القدامى بقدرة خارقة على حفظ الأشعار والقصص بأدق تفاصليها¡ وهذه السمة ليست السمة الوحيدة التي تؤهل الشخص لدور الراوي الذي يحظى باحترام الناس وبإنصاتهم لأحاديثه¡ التي قد تمتد لساعات¡ باهتمام¡ فالراوي الجيد مُطالب بانتقاء أفضل النصوص التي تمر على سمعه وأكثرها قدرة على إقناع المتلقين وإمتاعهم بما فيها من عناصر التشويق والجاذبية¡ ومُطالب أيضاً بالاستعداد للرد على أي استفسارات تاريخية أو لغوية تتعلق بتلك النصوص¡ والأصعب من كل ذلك أنّه مُطالب بالصبر على تبعات دوره المركّب حين يُخطئ في جزئية معينة من القصة أو ينسى شيئاً من تفاصيلها.
فعندما يخطئ الراوي الذي يعتمد على رواية القصص والأشعار شفهياً يُتهم بتحريف النصوص وإفسادها بالزيادة أو النقصان¡ أو يتهم بالجهل بالحادثة أو القصيدة التي يرويها¡ مع أن الرواية الشفهية كما يذكر الدكتور فضل العماري «ذات مظاهر شتى¡ أهمها التداعي¡ والاختلاط¡ والتداخل¡ والنسيان¡ والتوهم.. لأن ذلك جزء من الطبيعة البشرية». لكن كل خطأ يقع فيه الراوي يستحق من البعض ترديد مقولة: «وما آفة الأخبار إلا رواتها».
ربما يكون رواة اليوم¡ رغم تراجع دورهم¡ أسعد حظاً من القدماء¡ فالواحد منهم يدوّن النصوص التي يرويها¡ ويتاح له مراجعتها باستمرار¡ والتأكد من صحة كل جزئية فيها بالرجوع إلى المصادر قبل نقلها للمستمعين¡ لكن السمة التي يفتقدها كثير منهم هي سمة العفوية التي تتجلى بوضوح في أحاديث الرواة القدامى¡ إضافة إلى ما تفرضه الرواية الشفوية من استطراد في ذكر تفاصيل وجزئيات أعتقد أنها تثري حديث الراوي وتزيد من مُتعته.
أخيراً يقول علي سالم العازمي:
من كثر ما ضاعت الهقوة على الفاضي
يا كـثر ما شـاف طرف العـين وأغـضّه
ما عاد يعنيني الزعلان والراضي
معـادنٍ لا ذهـب فيـها ولا فضّـه




http://www.alriyadh.com/1754299]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]