رسائل تَقْطرُ لَوْعَةً¡ تنبع من السجن¡ وتصب في القلب¡ تنعتق من الأسرº لتكون أكثر صدقاً¡ وألقاً. ليس بين الاثنين أي علاقة تذكر¡ من حيث العرق¡ والدين¡ والتضاريس¡ والتاريخ¡ والجغرافيا¡ ولا أي شيء آخر¡ لكن ثمة شيء يجمعهما¡ وهو ذلك الحرف الباكي¡ والرسائل التي تثير شجون من يتأملهاº رسائلُ تخاطب الأم¡ وتنضح بعفويتها¡ ونقائها¡ وعاطفتها المتأججة¡ ومشاعرها الملتهبة¡ التي تجعل من الأم مقاماً خطابياً فريداً¡ لا يشبهه أي مقام آخر.
كتب ابن تيمية (728هـ) رسائله من السجن إلى أمه¡ وإخوته¡ وأهله¡ وغيرهم¡ وهي رسائل في أكثرها تختلف عن منهجه التأليفي¡ وإن كان في بعضها مسحة من ذلك¡ لكن رسالته إلى والدته بلغت مبلغاً من الاستعطاف والإشفاق¡ وتميّزت بسلِّ الهم الذي يعتري قلب الأم¡ ويشعر به الابن¡ ويحسب له أنه ضمنها جانباً من الأمل¡ والاستبشارº ليخففّ من وطأة حزن أمه عليه. يقول: «من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة¡ أقرَّ الله عينها بنعمه.. ولسنا والله مختارين للبعد عنكم¡ ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم.. ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير¡ والرحمة¡ والهداية¡ والبركة¡ ما لم يخطر بالبال¡ ولا يدور في الخيال.. فلا يظن الظان أننا نؤثر على قربكم شيئاً من أمور الدنيا قط».
ويسطّر الإيطالي (أنطونيو غرامشي 1934م) من سجنه أعذب الرسائل وأرقها¡ مغلفةً بالحنين والاشتياق¡ وكانت أكثر رسائله إلى أمه¡ وكان يفتتحها بـ: «أمي الحبيبة» وبعبارات رقيقة مغلفة بالحزن¡ والتظاهر بعدم الاكتراث: «فكّرت فيك هذه الأيام¡ فكّرت في الحزن الجديد الذي سببته لكِ.. أمي الحبيبة كوني قوية وصبورة.. أكتب إليك لأنبهكِ أنه لا داعي للقلق.. كيف أمضيتِ هذه السلسلة من الأعياد¿ أتمنى أن تكوني في أحسن الأحوال¡ بلا قلق ولا معاناة¡ أما أنا فقضيتُ الأعياد بشكل عادي.. أمي الحبيبة¡ قبّلي الجميع بحنان¡ قبلاتي الكثيرة لك».
ومع أن لكل منهما هدفه الذي كان يسعى إلى تحقيقه¡ وربما كان سبباً للزج به في غياهب السجن¡ غير أن رسائلهما إلى الأم حملت جانباً آخر يختلف كثيراً عن ذلك المقام التأليفي الذي كانا يصدران عنه¡ فتخلى (أنطونيو غرامشي) عن كل همٍّ ثقافي¡ وفكري كان يشغله¡ وجرّد رسائله للسؤال عن أمه¡ وأحوال أسرتهº وكذا حاول ابن تيمية أن ينأى عن مسائله الدينية¡ وقضاياه العلمية¡ واقتصر على بعث الأمان والاطمئنان إلى قلب أمه.




http://www.alriyadh.com/1760776]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]