إعمال الخيال أثناء التلقي هو ما يعمل على التربية المتخيلة¡ وهو ما يصنع النجاح والتفوق. فهل يترك الآباء والأمهات العمل لعلماء التربية¿ وهل يتوقفون عن التذمر¿ فالجيل غير الجيل¡ والزمن غير الزمن¡ والتحصيل أصبح خيالياً إبداعياً¡ عالمياً وجماعياً غير ذاتي أو فردي!
في إحدى المدارس المصرية حضرت مؤتمر الآباء والأمهات¡ وكان ذلك في أول يوم دراسي لهذا العام الدراسي الجديدº ومما أبهرني في هذا اللقاء هو ذلك الانقلاب الكلي على ما هو عتيق وقديم من طرائق التربية والتعليم¡ ورفض كل ما هو مكنون في رؤوس الآباء والأمهات!
وكأنني أرتشف السمع ارتشافاً¡ حينما أسمع ما كنت أتمناه¡ كما نفعله نحن كأكاديميين في أبحاثنا ومؤلفاتنا¡ وكأن الله - عز وجل - قد مَنّ على أمتنا العربية بهذا الفتح الجديد في التربية والتعليم¡ وذلك نتاج مجهود جمعي بين الدولة ومؤسساتها.
ومن أهم ما أوحى به هذا المؤتمر الأبوي والتعليمي¡ أننا أمام جيل جديد لم يعد ذلك الجيل الذي سبقه¡ نتاج اتصاله بالعالم¡ وبالتقنية الإلكترونيةº وهو جيل يجب أن ننفخ في وقدة خياله¡ تلك التي تنبت في ذهنه من خلال هذا الانفتاح المعرفي! جيل لم يعد يتحمل الحفظ والتلقين وهو ما أكدته المسؤولة التعليمية ومعها أساتذة التعليم¡ فهم يعرفون الطلاب أكثر مما يعرفهم آباؤهم¡ ولكن المشكلة هنا ليست مع طلاب العلم بقدر ما هي مع الآباء والأمهات الذين يتولون تلقين أبنائهم وبناتهم في المنزل ويشترون لهم ملازم أو كتباً ملخصة وتلقينية للحفظ¡ هذه أولى المشكلات.
المشكلة الأخرى أن الوالدين وخاصة الأمهات يتدخلون في تربية الطالب في المدرسة¡ والتي هي من شأن المؤسسة العلمية¡ فهي مؤسسة تربية وتعليم¡ ومن هنا تتلازم التربية مع التعلم¡ وقلما فقه ذلك كثر من الأمهاتº إذ يعملن على الدخول للمعلمين والمسؤولين¡ يعترضن على طرق التدريس أو طرق التربية التي لم يعهدنها في زمانهن¡ وهنا أصبحت الإشكالية هي تلك الفجوة الرهيبة بين جيلين¡ وهذا هو (مربط الفرس).. ولذا كنت أتساءل قبل دخول المؤتمر: لماذا لم يكن هذا اللقاء مع الطلاب¡ فهم المعنيون بهذا الأمر¡ لكي يستوعبوا الطرق الجديدة ومناهجها¡ ويستعدون نفسياً لما هو آتٍ¿ لكنني استوضحت إجابة هذا التساؤل أثناء هذا اللقاء بأن المهم¡ هو إزاحة تلك العقبة الصلدة والمتذمرة دائماً أمام المنهج الجديد في التعليم وهم الآباء. فالمنهج الجديد هو التربية المتخيلة¡ والتربية الذهنية¡ والعمل الجماعي.
وفي هذا الشأن¡ سبق وأن رصدت نتائج المتسابقين في جائزة "باديب" لتعزيز الهوية الوطنية¡ والتي بلغت ما يربو على 1200 متسابق¡ وكانت في أفرع الشعر والقصة والفن التشكيلي والتأليف الموسيقي والمسرح¡ ومن خلال ذلك الرصد والتحليل وجدت أزمة كبيرة في توافر العمل الجماعي مع وفرة العمل الفردي. والحقيقة أنها مشكلة كبيرة ينتج عنها تربوياً تضخّم الذات وتنمية سمة التفرد¡ وهذا ما يسبب خللاً في الأداء الوظيفي المؤسسي فيما بعد¡ نتاج تربية التنمر وتضخم الذات وارتفاع نسبة الأنا¡ نتاج ما اكتسبوه من تربية التعليم. وقد طرحت ذلك في حفل الختام¡ منوهة لوجوب انتباه المؤسسات التعليمية والتربوية في هذا الشأن¡ ومدى خطورته.
وفي هذا السياق طرح هذا المؤتمر معاناته مع الآباء نتاج تكليف الطلاب بعمل جماعي أثناء العطلة الصيفية في (مجموعات منتقاة) بحيث كل مجموعة تختار موضوعاً للبحث¡ وتعمل على إنجازه ميدانياً.
لكن كل الصعوبات باتت في تذمر الآباء والأمهات¡ لأنهم لم يتمرنوا في طرقهم القديمة على العمل الجماعي¡ بل إن الطلاب أنفسهم لم يستوعبوا ذلك التوافق التام على اجتماع الرأي والتنفيذ¡ فكل يريد أن يبرز ذاته¡ وهذه متجذرة في الآباء والأمهات (تجذر الأنا)! وحينما انبرت إحدى الطالبات بإنجاز المهمة اعتقاداً منها أنه واجب منزلي رفضت المدرسة ذلك البحث¡ فلا يهمها جودته من عدمها¡ بقدر ما يهمها التدريب على العمل الجماعي وهو المطلوب.
إن هذا الموقف يذكرني بموقف مشابه¡ حينما كنا طلاباً بالولايات المتحدة الأميركية¡ حيث قام طالب عربي بإنجاز بحث جماعي بمفرده¡ اعتقاداً منه أنه سيتفوق على أقرانه¡ وكان ذلك ضمن امتحانات المرحلة التعليمية مهماً للغاية. فما كان إلا أن رسب وقوبل بحثه بالرفض بالرغم من جودته إلا أن الأهم هو العمل الجماعي تربوياً وتعليمياً!
لقد نشرت مجلة اليمامة موضوعاً مهماً وهو (ظاهرة التنمر) حينما قتل طالب في الصف السادس الابتدائي زميلاً له في بداية العام الدراسي. والحقيقة أنني أعتقد أن حل مشكلة التنمر هذه والتي طرحتها المجلة¡ ليست إلا نتاج التربية على الفردية وعدم تربية العمل الجماعي في نفس الوقت¡ إذ إن النجاح والتفوق لابد أن يكونا بالكل وليس بالفرد¡ وإذا ما نظرنا لهذا الأمر تربوياً¡ سنجد أنه يأخذ في اتساع حتى يعم الإنسانية كلها عبر المحيطات وعبر حدود الدول.
وفي مداخلة أستاذ التاريخ¡ تحدث عن دور تخيل الجغرافيا أثناء دراسة التاريخ¡ وأنا أضيف أن إعمال الخيال أثناء التلقي هو ما يعمل على التربية المتخيلة¡ وهو ما يصنع النجاح والتفوق. فهل يترك الآباء والأمهات العمل لعلماء التربية¿ وهل يتوقفون عن التذمر¿ فالجيل غير الجيل¡ والزمن غير الزمن¡ والتحصيل أصبح خيالياً إبداعياً¡ عالمياً وجماعياً غير ذاتي أو فردي!




http://www.alriyadh.com/1777650]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]