بين حين وآخر أقرأ في كتب المراسلات¡ وتستهويني إلى حد الثمالة رسائل الغربيين¡ وبخاصة الذين عاشوا من القرن الخامس عشر الميلادي إلى القرن العشرينº أجد في رسائلهم متعة¡ وحميمية صادقة¡ بصرف النظر عن أي إشكالات تحوطهاº تذكرني رسائلهم - من حيث الاهتمام البالغ - برسائل القرن الرابع الهجري¡ عندما كانت الرسائل الأدبية تحفة العصر¡ وكان كتّابها علامات فارقة في أدب الترسل إلى يومنا هذا.
ويعد الفرنسي (مارسيل بروست) من ألمع الروائيين الفرنسيين¡ وهو من أساطير أدب الرسائل العالميين¡ ويعد إضافة نوعية إلى كتّاب أدب المراسلات كـ(فرانز كافكا¡ وفلاديمير نابوكوف¡ وأنطونيو غرامشي¡ ومكسيم غوركي¡ وتشيخوف¡ وميخائيل شيشكين..) وآخرين. ومن بين هؤلاء المؤثرين في خارطة الأدب الرسائلي العالمية (مارسيل بروست) الذي أبدع عملا خالدا وهو (البحث عن الزمن المفقود) وهو سلسلة من الأجزاء الحكائية التي صنعت اسمه¡ وتشكلّت أكثر مادتها من تلك الرسائل¡ وقد توفي قبل أن يكمل عقدها الأخير¡ وكان مترددا في تجنيسها بين الرسائل¡ والرواية¡ والمقالة¡ وإن مال كثيراً إلى صناعتها في قالب روائي.
ولد (مارسيل بروست) عام 1871م¡ وتوفي سنة 1922م¡ وهو في قمة مجده¡ وعطائهº كان متشائماً¡ ويصف نفسه بأنه شخص فاقد للحياة¡ وكان لفقد أمه تأثيره البيّن على حياته عموما¡ وعلى رسائله بشكل خاصº لهذا كانت رسائله إلى أمه من أمتع الرسائل¡ وأكثرها حميمية¡ وتكاد تقطر لوعة بعاطفتها الرقيقةº حتى رسائله إلى غير أمه كان لا يفتأ يضمنها ذكر أمه «لا أعلم متى تعود أمي. إنني أكتب لها كل يوم..» ويختم بعض رسائله إلى بعض أصدقائه بالسلام على أمهاتهم «تحياتي واحترامي إلى الوالدة إن كانت بقربك..».
لقد تميزت رسائله بتكثيف الدلالات الحسية كالتركيز على شكل الخط¡ وما يحويه من دلالات عميقة تكشف عن أغوار نفسه «ورأيت خط يدك الذي تغيّر تماماً¡ بل أصبحت لا أكاد أتعرف عليهº كلماتك الضامرة بدت لي مثل عيون ذبلت لكثرة بكائها حتى تقلصت وصارت شقوقا في الوجه..» كانت الرسائل لـ(بروست) علاجاً نفسياً¡ وكان يرى فيها تأثيراً يدعوه إلى حد البكاء أحياناً. يقول متحدثا عن وقع إحدى الرسائل التي وردته: «وهي من أكثر الرسائل التي تلقيتها منك روعة ومتعةº شعرت بحاجة إلى البكاء..».
لقد جاءت رسائل (مارسيل بروست) مؤثرة على المستوى النفسي¡ والوجداني¡ وأثبتت بأن الرسائل العاطفية¡ والوجدانية هي الأكثر صدقاً¡ وحرارة في التواصل بين المرسل والمتلقي. وهكذا يكون تأثير الرسائل في أغلب الأحوال¡ فإن لم تترك أثراً أدبياً¡ أضافت شعوراً عاطفيا¡ أو إحساساً وجدانياًº يوفي هذا تأكيد على أن الرسالة هي عمدة أجناس الأدب الحميم.




http://www.alriyadh.com/1782905]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]