لا الأدلوجة ولا السياسة¡ يمكنهما التقدم على الفن. لأن الفن هو الأساس في أي عمل درامي¡ أياً كان الموضوع المشتغل عليه. فالرؤية البصرية¡ والسيناريو¡ والترابط بين المشاهد¡ والموسيقى¡ ودور الشخوص¡ وهوية كل شخصية وطريقة أدائها¡ والديكور¡ والأزياء.. كل ذلك هي العناصر الرئيسة التي تلبس المضمون هيئته¡ وتمنحه روحاً جديداً¡ وتخرجه من خانة الفكرة المجردة¡ أو الكتابة الجافة¡ وتصيره عملاً مصوراً يشاهده الناس بشغف واهتمام!.
في مسلسل «ممالك النار» حضر الفن قبل كل شيء. وإن كان التاريخ هو الأخ الأكبر الذي ابتنى عليه النص¡ ومنه تشكل جسده. إنما هذا التاريخ أعطي مساحته المحدودة¡ بحيث بقي حاضراً كإطار عام¡ دون أن يتلبس هيئة الحاكم الأول¡ الآمر والناهي.
رغم أن كثيرين نظروا للمسلسل¡ أيدوه أو عارضوه¡ لأسباب فكرية¡ أو سياسية. إلا أن «ممالك النار» لم يكن منحازاً لهؤلاء من أصحاب المواقف المسبقة¡ أو الباحثين عن ما يؤيد وجهات نظرهم في الدراما.
المشاهد العادي¡ الناشد المتعة البصرية¡ هو من كان الهدف الرئيس لـ «ممالك النار». ولذا حضر الإبهار¡ الموسيقى¡ تنوع القصص¡ خيبات الحب وعسله¡ ألق الفروسية وانكسار الفارس¡ والمساحات الخارجية التي تجول بين غابات وقلاع¡ مانحة عين المتابع راحة¡ دون أن تثقل على نفسه وعقله بنص تاريخي صعب ومغلق.
صحيح أن التاريخ لم يغب لحظة واحدة¡ بما فيه من دم وعنف وخيانة ووجع¡ إلا أن هذا الدخان الأسود الكثيف¡ جاء ضمن سياق درامي¡ تلقائي¡ غير مباشر في رسالته.
التاريخ لم يستحضر ليكون المتحدث¡ بل تحول إلى أحد عناصر العمل¡ وليس عنصره الوحيد أو الغالب. وهنا سر المتابعة الواسعة للمسلسل من قبل الجمهور في أكثر من بلد عربي.
الكاتب الإماراتي ياسر حارب¡ الذي أنتجت شركته «جينوميديا» مسلسل «ممالك النار»¡ قدم للشباب في الخليج تجربة رائدة¡ في أن الأعمال العربية الكبرى¡ في متناول اليد¡ إنما بشروطها!.
المهنية¡ والعلمية¡ ووضع مخطط فني واضح¡ بميزانية مجزية¡ واختيار شخوص مناسبين¡ هو الأساس الذي انطلق منه حارب. والأهم أن هنالك رؤية وأهدافاً واضحة¡ وخطة زمنية¡ جعلته وفريق العمل قادرين على التنفيذ وتحقيق أفضل النتائج.
هنالك مشروعات كثيرة في الخليج¡ وشباب تأخذه الحماسة والرغبة في الانطلاق نحو تجارب جديدة¡ إلا أن أهم عنصر يفتقده الكثيرون هو «الرؤية العميقة والموضوعية الهادئة»¡ وهي الإطار الذي دونه تتحول الأعمال¡ أياً كان نوعها¡ من الفن إلى وحل السياسة والأدلجة¡ وبذلك تتقوقع في ركن رتيب¡ لا يتابعها أحد¡ ولا يتأثر لها مشاهد¡ لأنها منذ البداية وضعت بينها وبين النجاح حاجزاً¡ وأطرت ذاتها بخطاب مباشر انفاعلي!.
الأعمال الكبرى لديها سحرها مثل العطر الذي يتسلل خلسة إلى روح من يعانقه¡ تتملكك في غفلة منك¡ تؤدي أثرها بسلام وود¡ دون أن تشعر بكدمة في قلبك أو صدمة في عقلك أو نفور منها¡ وهذا هو سر الفن الأعلى.




http://www.alriyadh.com/1793084]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]