ما زال أصحاب الهمم العالية من أهل الأعمال والجهود المثمرة في السياسة وخدمة المجتمع والذود عن حمى الحرمات والناجحين في التجارة وتثمير الأموال النافعة يعملون بلا كدٍّ ولا مللٍ¡ إذا حقّق أحدهم إنجازاً عظيماً لم يُلْهِهِ البطر به عن العمل¡ بل يحمد الله عليه¡ ويواصل السير في دربه..
الإنجاز ينبغي أن يؤزَّ صاحبه إلى مزيد من الإنجازات من نوعه ومن أنواعٍ أخَرَ¡ وليس من دأب ذي الهمة العالية والنفس السامية إلى نيل المحامد الاكتفاء بمنجزٍ حقّقه¡ ولا تعليل النفس بأن ما فعلته هو منتهى الأمل¡ ومحطةُ رحلة الجدِّ والمثابرة¡ وإنما تصدر هذه النظرات الضيّقة ممن ضَرَبَ الكسل أسداداً متينةً بينه وبين إكمال مسيرة العمل¡ أو من تصيّده الشيطان وأصاب منه ثغرةً قاتلةً فسدّد فيها سهمه المسموم¡ أما الـمُوفّقُ فبإتقانه لعبادته اليوم يستعين بتوفيقٍ من الله على إتقانها غداً¡ وعلى إتقان غيرها من أعمال البرِّ والخير¡ وبنجاحه في أعماله وعلاقاته ومسؤولياته يستعين - بتأييد من الله - على مزيدِ التّألق والتسامي والإنجاز¡ يرى الإنجاز الحاصل مَعبَراً يجب أن يَعْبُرَ من خلاله إلى مستوى أعلى¡ وخبرةً مُعتبرةً تُضافُ إلى قائمةِ خبراته¡ وهذه النظرة النّيرة مشتركةٌ بين أصناف المغبوطين والعظماء في كل مجال من مجال الفضل الديني والدنيوي¡ فمن ذلك:
أولاً: العبادات¡ ومعلومٌ أن خيار المتعبدين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستكثر أحدهم جهداً بذله في عبادة ربه¡ بل هم مُشمِّرون في عبادة ربهم رغبةً ورهبةً وشكراً لله تعالى ومع علمهم بعلوِّ منزلتهم عند الله تعالى¡ فلا يقول أحدهم: ها هو الأمل قد تحقّق وسأخلد إلى الراحة¡ بل يظلُّ في مثابرته¡ فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ¡ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ¡ فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا¿ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ¡ فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه¡ وقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من الصحابة بالجنة¡ فلم يتأثر بذلك اجتهادهم في الطاعات¡ ولم يتّكلوا على هذا¡ مع أنهم أنجزوا إنجازاً لا يُضاهى فمن علم أن الله تعالى تقبّل منه وأثابه على عمله الجنة فقد أثمر جهده أهنأ الثمرات.
ثانياً: العلم¡ وبالرجوع إلى سير العلماء يتضح أن العالم يُحفِّزه إنجازه إلى بذل الكثير من الجهد للمحافظة على ما تعلّم سابقاً¡ ولِتَعَلُّمِ المزيد¡ وتزكية ما تعلّمه بالتعليم والتأليف والمباحثة¡ ولو أن كل عالم من علماء الأمة انكفَّ عن النظر في العلم¡ والاستزادة فيه بمجرد أن يضع قدمه على أدنى موضعٍ من درجة العلم لما وَصَلَنَا من العلوم هذا الكمُّ الوافر الذي وصلنا¡ وكم من إمامٍ من أئمة المسلمين - ممن ملأت شهرتهم الآفاق ونفع الله بهم العباد - كان له زملاء في الطلب فاكتفوا ببعض ما حصّلوا وانصرفوا عن الطلب¡ وبقي هو مثابراً يتعلَّمُ ويُعلِّمُ ويُصنِّفُ¡ فكان ذلك سبباً لجريان حسناته بعد موته¡ ولو اكتفى بمعرفة ما يُصلحُ به عباداته ومعاملاته الخاصة لم يكن نفعه متعدياً¡ ولم يكن بدراً مُنيراً يُضيءُ الدنيا.
ثالثاً: البرُّ والصلة والإحسان إلى من أمر الله بالإحسان إليه¡ وفي مقدمة أنواع البرِّ برُّ الوالدين¡ ودأب أهل البرِّ والصلة الاستمرار في بذل البر والإحسان على حسب ما يُرضي ربهم¡ وقلّما يعجز الإنسان عن الإحسان فإن الكلمة الطيبة والابتسامة المسعدة من البرِّ¡ وقلّما يعجز عنهما المريض طريح الفراش فما بالكم بغيره¡ وليس من دأب البررة أن يقول أحدهم: بررت أكثر من مرة¡ وهذا يُغنيني ويضع اسمي في سجلِّ أهل البرِّ والصلة¡ والأدهى والأمرُّ أن يَصِلَ ضيق الأفق بالإنسان إلى أن يُطبِّقَ على والديه هذا المبدأ الجائر¡ فيستكثر برّاً أسداه إليهما¡ ويدّعي أنه وفّى بحقِّهما¡ ولم يعد مديناً لهما بالإحسان¡ وهذا غلطٌ فادحٌ¡ وقد أخرج البخاري رحمه الله في الأدب المفرد عن أبي بردة أنه شهد ابن عُمَرَ ورجلُ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ - حَمَلَ أُمَّهُ وراء ظهره - يقول:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ ... إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا¿ قَالَ: لَا وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ"
رابعاً: معالي الأمور الدنيوية¡ وما زال أصحاب الهمم العالية من أهل الأعمال والجهود المثمرة في السياسة وخدمة المجتمع والذود عن حمى الحرمات والناجحين في التجارة وتثمير الأموال النافعة يعملون بلا كدٍّ ولا مللٍ¡ إذا حقّق أحدهم إنجازاً عظيماً لم يُلْهِهِ البطر به عن العمل¡ بل يحمد الله عليه¡ ويواصل السير في دربه¡ وقد يظن الناس إذا رأوا بعض ما يُنجزهُ هؤلاء أن لا مزيد على هذا القدر¡ ولكن يستمر المنجز فيأتي بعد هذا بما يُنسي إبداعه الأول¡ وهذا ما يُميِّزهم عن القومِ الفرِحين الذين يُصيبهم الزّهو بما نالوا فيُهملون العمل فيتهاوى ما بنوا¡ وتتوالى عليهم الحسرات حيث لا يُمكنهم استدراك الأخطاء التي ارتكبوها.




http://www.alriyadh.com/1798942]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]