إننا نعيش الآن انطلاقة الموجة الثانية من الوعي الثقافي - التنموي¡ وهذه الموجة تهتم ببناء الإنسان أكثر من العمران¡ وتركز على الدخول في العالم المعاصر المتطور وليس فقط الاكتفاء بتحقيق الضروريات..
يبدو أن هناك وعياً تنموياً وثقافياً جديداً تعيشه دول الخليج العربية بشكل عام والمملكة بشكل خاص¡ أو هذا ما حاولت أن أوضحه في لقاء جمعني ببعض الزملاء المهتمين بالتنمية وبالثقافة¡ لقد قلتُ بوضوح إن المنطقة تعيش موجة ثانية من الوعي التنموي والثقافي¡ وكان سؤالهم هو: ما الموجة الأولى وكيف حدثت إذا كان هناك موجة ثانية حسبما تدعي¿¡ قلت لهم دعونا نتحدث عن حالتين ثقافيتين¡ الأولى كانت مرتبطة بمفهوم التنمية على أنها "التطور المادي" وكانت دول الخليج تتسابق في بناء المدن وناطحات السحاب والطرق السريعة¡ بل واعتبر البعض أن هذا التطور هو التطور الحقيقي¡ فنتج عن ذلك إهمال واضح للقيمة الثقافية لدى الفرد ولم يتطور مفهوم صناعة العقل بكل أبعاده العلمية والثقافية والذوقية والسلوكية والأخلاقية بشكل يوازي الرغبة في التطور المادي الشكلي¡ كما أن التعليم رغم ما تنفقه هذه الدول عليه لم يتطور بالقدر الكافي لصنع مجتمع مستقل ثقافياً¡ ومنتج معرفياً ومادياً.
ما أقصده بالموجة الأولى من التطوير هو هذا التركيز العمراني والمادي الشكلاني الذي نقل دول الخليج العربية منذ مطلع الأربعينات من القرن الماضي وحتى اليوم¡ على أن هذه الموجة المادية كانت أسرع بكثير من التغير في السلوك والذوق العام¡ وحتى أنماط التعليم وأساليب العمل وبالتالي حدثت فجوة بين صورة المجتمع المتطورة شكلياً والمضمون الثقافي والمعرفي الذي يبدو كأنه في بداياته ولم يتطور بالقدر الكافي ليعكس هذا الجموح العمراني المادي¡ لنكن صرحاء مع أنفسنا¡ فموجة التطوير الأولى لم تصنع تقاليد اجتماعية - ثقافية جديدة ترتكز على تذوق الفنون وتقدير المعرفة¡ وبقيت هذه الجوانب حكراً على بعض النخب ولم تتوسع لتشكل ظاهرة ثقافية ومعرفية حقيقية كما حدث في التطور العمراني والمادي.
إذن كان هناك تناقض بين الشكل والمضمون¡ أو لنقل أنه لم يكن الواقع الثقافي والسلوكي بشكل عام يتوافق مع الواقع المادي الجديد في مجتمعات المنطقة وبالتالي حدث كثير من المفارقات المثيرة للجدل خلال العقود الأخيرة ربما كونت صورة ذهنية سلبية عن دول المنطقة كونها دولاً تملك الثروة ولكن لا تملك الثقافة. وصار بعض المثقفين العرب يصف هذه المجتمعات بأنها "محدثة النعمة" لا تستطيع بناء ثقافة ذاتية يعول عليها¡ الغريب أن المؤسسات الرسمية في دول المنطقة كانت تساهم بشكل مباشر ودون قصد في تغذية هذه الصورة السلبية كونها كانت تستعين بخبرات خارجيةº لأنه الخيار الأسهل والأسرع مع افتقارها لأي خطة بعيدة المدى لبناء مجتمع ثقافي ومعرفي يواكب التطورات المادية العملاقة التي تحدث حولها.
قلت للزملاء إننا في المملكة نملك مجتمعا حيا ومتعدد الخبرات الثقافية والجغرافية¡ والنهضة العمرانية الأولى حاولت أن تتجاهل هذه الخبرات وأن تصنع مجتمعا يفكر في انتمائه الوطني الكبير¡ وفي اعتقادي أن ذلك التوجه كان ضروريا في المرحلة المبكرة لكن هذا التجاهل استمر حتى بعد أن انتفت الحاجة له وأصبح من الضرورة بمكان أن يتم توظيف العمق الثقافي "الموزايكي" المتنوع لمجتمعات المملكة ومناطقها المختلفة. هذا ينطبق على الجذور والمنابع الفكرية والثقافية التي تميز كل منطقة ويفترض أن تشكل الخصوصية التعددية للمجتمع السعودي. موجة التطور الأولى وصلت إلى منتصف الطريق وصارت تكرر ذاتها بنفس الصيغة الذهنية السلبية التي تم رسمها عنها وتجاهلت الكثير من المعطيات الكامنة في جوهر المجتمع السعودي والخليجي ونواته الإبداعية فلم تستطع اكتشافها وتوظيفها.
بينت للزملاء أنني على قناعة أننا نعيش الآن انطلاقة الموجة الثانية من الوعي الثقافي - التنموي وهذه الموجة تهتم ببناء الإنسان أكثر من العمران وتركز على الدخول في العالم المعاصر المتطور وليس فقط الاكتفاء بتحقيق الضروريات. إنها موجة سوف تصنع المثقف السعودي الجديد الذي ربما يكون هو الفرد العادي¡ وأن تفكك ما يمكن تسميتهم "النخبة" التي يفترض أن تكون هي النسبة الغالبة في المجتمع. أتصور أن الحراك الثقافي المجتمعي الجديد في مجتمع حي مثل المجتمع السعودي ستتمخض عنه حركة معرفية وفكرية تعكس ذلك الجوهر الكامن الذي لم يكتشف بعد. إحدى أهم الأفكار التي تراودني وأنا أرى هذا الحراك الثقافي الجديد هي تطور الذائقة الفردية - المجتمعية ونمو ملكة الاختيار والقدرة على تمييز الأفكار العميقة عن غيرها¡ رغم أن هذه الموجة الثقافية الجديدة في بدايتها إلا أنها تبدو واعدة وتبشر بتحولات جوهرية في العقل المجتمعي في المستقبل القريب.




http://www.alriyadh.com/1799245]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]