منذ دخل الإعلامي برنار بيفو أكاديمية غونكور تغيرت بعض مقاييس جائزتها¡ فالرجل الحاد الطباع قارئ محترف¡ واحتكاكه بلجان منح الجوائز الفرنسية احتكاك عارف بالوسط الأدبي¡ وذائقته الأدبية مستقلّة من الصعب التأثير عليها لصالح بعض الصداقات. لقد دخل إلى كواليس الأكاديمية وكشف بعض أسرارها¡ حتى ما تعلّق بالوجبات الغذائية التي يقدمها مطبخ الأكاديمية¡ إذ انتقد غياب الأجبان عن وجبة الأكل.
كما انتقد اثنين من أعضاء اللجنة لجهلهما بأصول القراءة¡ كما وضع تسلسلاً مختلفاً للقراءة واختيار الأعمال المتأهلة للتصفيات النهائية.
بيفو الذي أخرج للنور مهنة "القارئ المحترف" أنصف قراء دور النشر الذين يعملون خلف الكواليس¡ والذين يمنحون لأي دار الجزء الأهم من نجاحها. مع ملاحظة أن هذه المهنة لا تزال غير ذي قيمة في بلادنا¡ وإن استعان أحدهم بقارئ فإنه يقرأ متطوعاً غير مدفوع الأجر¡ وهذا من أكبر علل ناشرينا وقرائهم في آن..
القراءة الاحترافية مهنة¡ يقوم من خلالها القارئ بخلق مقاييس جمالية لتصنيف الأعمال الأدبية بكل أنواعها¡ هناك المختص في الرواية¡ وهناك المختص في الشعر والقصّة¡ وأنواع أدبية أخرى¡ لكن الأكيد أنه يفوق النّاقد الذي يضع النص تحت مبضعه الحاد بحثاً عن معنى له حسب منهجه النّقدي¡ النّاقد يُسقط نظرياته على نصوص مشهورة¡ فيما القارئ المحترف يكتشف النص الجيد من بين ركام من النصوص.
في إحدى دور النشر الشهيرة يخبرنا مديرها أن الفرنسيين مهوسون بالكتابة¡ إذ تتلقى الدار سنوياً ما يفوق الخمسة آلاف مخطوط¡ وهو عدد ضخم يستحيل أن يقرأه¡ فهذا العدد يتطلب منه أن يقرأ ثلاثة عشر مخطوطاً يومياً¡ ما جعله يوظف لجنة متخصصة في القراءة¡ حتى يتمكن من اكتشاف النصوص الجيدة.
اجتياز ثلاثة أعمال لغربال القراء المحترفين يكون في حدّ ذاته معجزة¡ إذ في الغالب ينقاد الهواة وراء وهم أفكارهم على أنهم رواة ممتازون¡ لكنهم غير ذلك. ثلث الأوروبيين يعتقدون أنهم بإمكانهم أن يصبحوا كتاباً مشهورين¡ فيما نسبة الأمريكيين تفوقهم بقليل¡ وأعتقد من خلال تجربتي أن نسبة العرب تفوقهما معاً¡ بل إنهم يستسهلون الكتابة منذ انتشرت ظاهرة "اللايكات" المجانية على مواقع التواصل الاجتماعي.
مهنة الظل هذه يمارسها قرّاء كالأشباح¡ يختفون في كواليس دور النشر¡ عددهم لا يقل عن الخمسة¡ ولا يزيد عن العشرة لكل دار¡ لكنهم غير معروفين¡ لا تبوح الدار بقرائها السريين¡ حتى وإن كانوا بمستوى بيفو..
في العالم العربي هناك قرّاء محترفون¡ لكنهم يعيشون في ظل الظل¡ يقرأون لمتعة شخصية¡ من دون استياء¡ يمارسون سلطتهم الخاصة لقتل النص أو إخراجه للنور¡ يفعلون ذلك من دون مقابل¡ كونهم غير متخرجين من مدرسة¡ أو معهد علّمهم القراءة سوى تلك الذائقة الرّبانية التي تميزهم عن غيرهم.




http://www.alriyadh.com/1799247]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]