أحتفظُ في مكتبتي الورقية الخاصة بمكتبة أخرى غريبة نوعًا ما¡ مكتبة من طراز مختلف¡ لا تعجّ بالأوراق¡ والمجلات¡ والمجلدات¡ ولكنها تنضحُ بالقوارير العطرية المتنوعة¡ وهي تلك القوارير التي انتهيتُ من استعمالها¡ ونَضَب ماؤها¡ ولكن لم يذهب بهاؤها وعبقهاº حيث أقوم بالاحتفاظ بصبابة القارورة العطرية¡ ثم أضعها في رفّ خاص بالعطور الفارغةº كنتُ أمارس هذه الهواية منذ سنوات حتى تشكلّت لدي مكتبة عطرية فاخرة من صنوف مختلفة (الماركات)¡ وأخال هذه المكتبة ستتحول إلى متحف عطري إذا تهافتت عليها العطور الحالية واللاحقة في الأيام المقبلة إن شاء الله.
هذه المكتبة العطرية - في نظري - لا تختلف عن المكتبة الورقيةº فبين الكتاب والعطر علائق متشابهة¡ وهناك قواسم مشتركة بينهما¡ وليس بالضرورة أن يكون التشابه متطابقًا¡ أو متمايزًا¡ لكن ثمة تشابهًا بين الاثنينº فالكتاب يترك أثره في نفس قارئه¡ وربما ينتشر ذلك الأثر إلى الآخر حين ينقله القارئ إلى المتلقي¡ وكذا العطر يترك أثره في نفس صاحبه¡ وينتقل أثره إلى الآخر الذي قد يستمتع بطيب الرائحة¡ ويتفاعل معها.
ثم إن العطر ليس ببعيد عن الكتاب في بقاء نفعه إلى أمد بعيد حتى بعد الانتهاء منهº إذ تحتفظ زجاجة العطر عادة برائحتها حتى بعد مدة طويلة من فراغها¡ وقد تفوح ببعض رشات متبقية¡ وكذا الكتاب الذي نقرأه¡ ونفيد منه¡ ثم نعود إليه مرة أخرى¡ فيتجدّد عهدنا به¡ وربما نجد فيه فائدة أخرى جديدة¡ أو يعود بنا إلى ذكرى محددة¡ كما هو الحال تمامًا مع زجاجة العطر التي تحتفظ بريحها¡ وقد تحيلنا على ذكرى معينة كلما شممناها.
هذه المكتبة العطرية تركت في نفسي أثرًا في جرّ العطور إلى ساحة الخطاب الأدبي¡ وأعادتني إلى كتاب (المحب والمحبوب والمشموم والمشروب) للسري الرفاء (ت362هـ) الذي انبثقت منه فكرة دراسة الخطاب الأدبي في تواشجه مع العطر¡ وأفضى بنا ذلك إلى تقديم دراسة تداولية متواضعة بعنوان (التواصل بالروائح والعطور في الخطاب الأدبي)¡ وكان التطبيق على كتاب الثعالبي (ت429هـ) الموسوم بـ(من غاب عنه المطرب)¡ وقد يجد الدارسون في ذلك فرصة لبعث الاهتمام بالأدب في تواشجه مع العطور.
وربما لا يوجد رابط قوي بين المكتبة العطرية والدراسات النقدية المتعلقة بالعطور¡ لكنني سقت هذا الشاهدº لأنه يجيب عن أسئلة كثيرة تردني بشأن هذه الصُبابات العطرية التي أحتفظ بها¡ وقد تخفف مثل هذه الدراسة من الغموض لدى بعض المتسائلين عن هذه المكتبة¡ إذ أكشف لهم دائمًا أن الهدف منها ليس إعادة تدوير المنتج العطري¡ والاستفادة من زجاجته¡ ولكن إعادة تدوير الذكرى¡ والانفتاح على أفق متجدد أكثر وفاءً وخيالًا.




http://www.alriyadh.com/1799239]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]