مقدمةُ كل شيءٍ واجهةٌ له, وعنوانٌ يدلُّ عليهº يعي هذا الشعار جيداً الفنانون, والرسامون, والتشكيليون, والمعماريون, والمصممون, والمهندسون, حتى الشعراء, والكاتبون, الذين يدركون معنى المطلع, وسر الابتداء, وبراعة الاستهلال. فللمقدمة أهمية بالغة في كل شيء, سواء أكانت تلك المقدمة مادية, أم معنويةº هي على كل حال شرارة أولى تشعل الإحساس, وتوقظ الشعورº المقدمة فنٌّ فريدٌ قبل أن تكون شكلاً, أو نمطاً.
إننا - على الأغلب - لا نستطيع الحكم على الأشياء إلا بعد معرفة مطالعها, أو بداياتهاº ذلك أن البداية مدعاةٌ إلى التأمل أولاً, ثم التفكّر ثانياً, وهي كذلك أول ما يصادفنا, ويواجهناº لذلك تُعرفُ (الواجهة) عند المصممين, والمنسقين, والفنانين بأنها العنوان العريض الذي ينبئ عن مكنونات عميقة, كواجهة السيارة, وواجهة البناء, وواجهة المدينة, وواجهة البحر, أو الواجهة البحرية, وواجهة الكتاب, وواجهة الصحيفة, أو المجلة, ونحو ذلك, وكلها اشتُقت – فيما يظهر – من الوجه الذي هو مقدمة الإنسان, بتفاصيله الدقيقة والمعبرة: العينين, واللسان, والشفتين, والأنف.
ووجهُ الإنسان الذي يصدر منه الصوت, وتشرقُ منه الابتسامة, وتخرج منه الدموع, هو في النهاية مركز الإيحاءات, ومصدر العلامات, ومن خلاله يُعرف السعيد, والحزين, والمبتهج, والشاحب, وفي هذا دليل على أن الوجه الذي هو (مقدمة) الإنسان قد يفصح لنا عن كثير من الرموز, والإشارات, هذا فضلاً عن معرفة جمال الشخص من دمامته. ولو رمنا عدّ المقدمات في كل جانب مادي, أو معنوي لألفيناها تندّ عن الحصر والاستقصاء, وهو ما يعني كثرة المقدمات في واقعنا, وتنوعها من حولنا.
وإذا كانت تتجلى في المقدمة معاني التفوق, والقوة, والجمال, أدركنا قيمتها وأهميتها في كل شيء, حتى في كلامنا العادي, والرسمي, والأدبي, ولهذا لم يلتفت النقاد إليها في العصر الحديث كثيراً, إلا ما كان من اهتمام محدود, فيما عُرِف بالعتبات, أو النصوص الموازية, وأظن أننا اليوم بحاجة أكثر إلى إعادة النظر في (المقدمة) أو (الخطاب المقدماتي) أو (الواجهات) بوصف ذلك كله عتبة أولى يُنفذ من خلالها إلى ما وراء الأشياء.
وأعتقد أن علينا العودة إلى كتب التراث من جديد, والنظر فيما كان يسميه القدماء (خطبة المصنف) أو (فاتحة الكتاب) فكثير من تلك المقدمات هي أشبه بالكتب المستقلة, وفيها من الرموز والكنوز الشيء الكثير, ولعلي أضرب على ذلك مثلاً في كتاب (أدب الكاتب لابن قتيبة) وأكثر كتب الجاحظ, وغيرها كثير.
وليس الأمر حكراً على كتب القدماء, بل حتى بعض كتب المحدثين تحتاج تأملاً من هذا النوع, كمؤلفات الرافعي, والمنفلوطي, وطه حسين, وأعمال المحققين الكبار كعبد السلام هارون, ومحمود شاكر, والطناحي, وغيرهم, بل إنك لتعجب حين ترى بعض مقدمات الشعراء لدواوينهم كنازك الملائكة – مثلاً - التي تحولت مقدمتها لديوانها (شظايا ورماد) إلى مادة نقدية ممتعة. وهو ما يجعلنا نعود إلى (المقدمات) ونتوقف عندها بشكل أكثر تذوقاً وتعمّقاً.




http://www.alriyadh.com/1804650]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]