وقد أحوجني الحال لمقدمتي هذه في هذا المقال لتشابه الحال بين ما نحن فيه وحاجتنا إلى التنفس وشوقنا للخروج والعودة إلى الحياة بطبيعتها¡ وبين المنتظر للفجر أن يتنفس ليتنفس معه الصعداء
تنفس الصبح¡ جملة مُلئت بلاغة وكناية ومجازًا¡ ولكن مجيئها في التنزيل معلّقة بالشرطية زادها روعةً وجمالًا¡ «والصبح إذا تنفس» وهو ما يعطي معنىً زائدًا متعديًا المحسوس في انبلاج الصبح إلى ما يشعر به المتنفس من لذة النفس بعد خنق صدره بضائقةٍ ما¡ وما أشبه الليل بكثير من الضائقات والنوازل المدلهمةº إذ هو آية مخيفة قد سُلب منها النور فصارت سكنًا وموضعًا للتفكر والخشوع¡ وقد جرت عادة الشعراء والأدباء وغيرهما إلى جعل الليل محلًّا لضرب أمثلتهم من الهموم والغموم والفراق واللأواء وغير ذلك من الشكايات التي لا تنتهي.
وأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى: «والليل إذا عسعس»º أي "أدبر"¡ وهو المناسب لما بعده من تنفس الصباح¡ فدل على أن الليل فعلًا موضعٌ للسكون وتقييد حركة الإنسان¡ بل أبعد من ذلك هو التخويف من سير الراكب وحده فيه¡ وقد أحوجني الحال لمقدمتي هذه في هذا المقال لتشابه الحال بين ما نحن فيه وحاجتنا إلى التنفس وشوقنا للخروج والعودة إلى الحياة بطبيعتها¡ وبين المنتظر للفجر أن يتنفس ليتنفس معه الصعداء¡ وكما لحظت معنى التنفس في الآية وفي شوق الناس لمزاولة حياتهم¡ فإن "كورونا" هو ليل العافية التي ربما كنا لا نشعر بصبحها ونسيمها الدائم حتى دهمنا الليل¡ فها نحن ننتظر الصبح أن يتنفس¡ وقد بدت ملامح نوره تُرسم بفضل الله أولًا وآخرًا ثم بفضل الجهود المضنية التي بذلتها الدولة في تسهيل الحجر المنزلي بحيث لم نشعر بالضائقة وقوة صدمتهاº لما قدمته الدولة من تسهيلات ودعومات للمواطن والمقيم على حد سواء¡ وها نحن مع إشراقة شمس هذا اليوم نشهد تنفس الصباح في ساعاته الأولى¡ فما الذي ينبغي لنا فعله¿!
إن المستقبل للصبح يبدأ ساعاته بحمد الله وشكره على منحه يومًا جديدًا ورزقًا جديدًا¡ ولكن علينا أن ندرك أن الأمر يختلف تمامًا عما قبله¡ وأن بداية هذا الصباح توجب علينا الحرص وامتثال كل الإرشادات والتدابير التي وضعتها الجهات المختصة حتى لا نعود إلى حجرنا وعزلنا مرة أخرى¡ فإن المعرفة والمعلومة التي اكتسبناها عن فيروس كورونا¡ توجب علينا اليقظة الدائمة لوجوده بيننا عند اللمس واللقاء والبيع والشراء¡ وعند الخروج والدخول إلى المنزل فإن الأمر سيكون غير ما اعتدنا عليه¡ فعند خروجك من منزلك يترصدك الشيطان في كل مكان¡ وهذا مما علم وتيقن به المسلمون غير أنه انضاف إلى ذلك "المترصد الخفي" كورونا¡ فكما تجابه الشيطان بالطاعة والصدق والمعاملة الحسنة والاستعاذة للتغلب عليه¡ فسلاحك للتغلب على كورونا هو امتثال إجراءات السلامة من لبس الكمامة وترك ملامسة الآخرين إلا للضرورة والحاجة¡ مع تيقظك لغسل يديك جيدًا قبل وصوله إلى وجهك¡ ومع وجود كل هذه المصاعب إلا أن المكث في البيت يظل رادعًا لنا ومحفزًا للجدية لمواجهة كورونا¡ ويظل ذلك الليل الطويل موجبًا علينا الحفاظ على تنفس الصباح الذي بدأنا نعيشه.
وربما نتكلم بعض الشيء في مقال لاحق عن أدبيات المساجد مع وجود الاحترازات¡ فإن للمساجد شوقًا لا يدانيه شوق آخر¡ ومع ذلك فقد نجد بعض الشيء من فقد المألوف من التقارب والتراص وسنعتاد عليه¡ إلا أننا بتلك الفقهيات الطارئة نزداد يقينًا بسماحة ديننا ومعالجته لكل النوازل ومواكبته لكل الحوادث¡ فإنه حين قال الأطباء إن التقارب والتجمع سبب لتنقل الفيروس وجدنا ديننا يأمرنا بترك التجمع ولو حتى للعبادة¡ فأغلقت المساجد حتى وجدت المعالجات والاحترازات التي تقام معها العبادة في المساجد دون إعطاء فرصة للفيروس بالتنقل من شخص لآخر¡ ولكن يبقى الاعتماد أولًا وآخرًا على الله ومن ثم فعل الأسباب التي شرعت دينًا وعقلاً لتوقي الإصابة بهذا الفيروس أو غيره¡ فإن مما عرف منذ القدم أنّ "درهم وقاية خير من قنطار علاج". ونعيد القول مرات أخرى تذكيرا بأن اعتقاد المؤمن ويقينه من قدر الله ورضاه به يتوافق تمام التوافق مع اتخاذ الأسباب المشروعة¡ ولا يتنافيان ألبتة¡ فالذي أخبرنا بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا¡ هو الذي أمرنا فقال لنا: «وأعدوا». هذا¡ والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1823723]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]