قد يذهب الباحثُ والدارسُ مذهباً بعيداً في استقصاء المسائل ودراستها¡ لكن إن لم ينظر في بعض هذه المسائل على أنها قضايا معاشة لها ما بعدها من نتائج على المجتمع والناس¡ وتكتنفها المصالح والمفاسد¡ وتترقبها النتائج والمآلات¡ إن لم يفعل ذلك فدراساته لن يكون لها روح ولا حياة¡ وبحوثه لن تتجاوز حُزْمة أوراقه¡ وهو لن يكون:
الألمعيّ الذي يظنُّ لك الظنَّ كأنْ قد رأى وقد سمعا
وأضرب لك مَثَلين من المسائل التي تناولها الصحابة -رضي الله عنهم- بالدراسة والبحث ثم بعد ذلك إعطاء الرأي والتنفيذ¡ وقد تصوروها قضايا لها ما بعدها في الواقع والمستقبل.
1- مسألة قد تكون أهم مسألة عبر التاريخ الإسلامي¡ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بلَّغ البلاغ المبين¡ وأُوحي إليه القرآن العظيم¡ وكان القرآن كله مثبتًا في صدور الصحابة وفي الصحف ولكنه لم يجمع¡ ثم حصل بعد ذلك ما حصل من حروب الردَّة التي استشهد فيها كثير من الصحابة لا سيما القراء منهمº هنا نرى عمر الفاروق -رضي الله عنه- الرجل الثاني في الدولة¡ والمقدَّمُ في المشورة¡ يتقدم بخطى تحفُّها خشية الله ورعاية مصالح الإسلام والمسلمين¡ إلى أبي بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله¡ وصاحب السابقة واللاحقةº فيقول له مشيرًا وناصحًا: إنَّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن¡ وإني أخشى إن استحرّ القتل بالقراء بالمواطن¡ فيذهب كثير من القرآن¡ وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
فلاحظ أن عمر يشير بذلك وهو يعلم قول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فأي مبلغ بلغ عمر من الاجتهاد وسعة النظر حتى فهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم¿! ثم ما هذه المبادرة العظيمة التي لها أثرها وخطرها في تحقيق أمر الله بحفظ دينه وتبليغه¿ ويلاحظ أن أبا بكر لم يقبل مباشرة¡ يقول عن ذلك أبو بكر -نفسه- رضي الله عنه: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم¿ فقال عمر: هذا والله خير. فمقتضى هذه الخيرية التي أشار إليها عمر أن المصالح ظاهرة في جمع القرآن¡ ولا ينبغي لنا أن نتأخر عن ذلك. قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك¡ ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
2- افتتح المسلمون أرض العراق عنوة أي بالقوة¡ وأرض العراق أرض أشجار وثمار ونخيل وأنهار¡ وصفها المعرّي بقوله:
وردنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
فمثل هذه الأرض ذات شأن وخطر¡ والمتصرف فيها يحتاج إلى بعد نظر¡ فماذا كان¿
رأى بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن تقسم الأرض بين الغانمين استنادًا إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر¡ واحتجاجًا بالنص القرآني: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الآية/ الأنفال:41
ورأى رموز من الصحابة رأيًا آخر¡ وهو: أن تبقى الأرض لأهلها¡ ويضرب عليها الخراج¡ من هؤلاء علي رضي الله عنه فقد قال: "دعهم يكونوا مادة للمسلمين" بمعنى: اترك هذه الأرض ولا تقسمها لتكون مصدرًا لخزينة الدولة¡ ومن ثم تكون مصدر دعم للناس في الأجيال اللاحقة.
وهذا ما شرحه معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حين رأى هذا الرأي أيضًا وقال: "إن قسمتها صار الرَّيع العظيم في أيدي هؤلاء القوم¡ ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة¡ ثم يأتي من بعدهم قوم يسدُّون من الإسلام مسدًا¡ وهم لا يجدون شيئًا¡ فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم".
تأملت هذا الذي أفاض به معاذ أمام عمر -رضي الله عنهما- ولا ينتهي عجبي مما ختم به كلامه: "فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم". لا أشك أن من يطالع هذا العرض سيتوقع اختيار عمرº لما عرف عنه من مراعاته للمصالح العامة وحذقه في توقع المآلات¡ نعم اختار الرأي الثاني¡ وأصدر أمره بموجبه¡ ولكن انظر إلى مقولته التي صاغها مبينًا فيها اختياره: "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر". إنه بهذه الكلمة يبدي تأييده للرأي الأول ولكن يقول: إن الرأي الثاني مصالحه في هذا الوقت راجحة ولذلك اتخذت القرار وفقه.
وفي قول عمر -رضي الله عنه- هذا فائدة أدبية¡ وفائدة إفتائية¡ أما الأدبية فحين قدَّر الآراء المختلفة وأوضح أن لكل منها حظًا من النظر¡ وأما الإفتائية: فإن الفتوى تبنى على اعتبار المصالح¡ فكلما كان الأمر أكثر مصلحة كان الاتجاه إليه مع مراعاة النظر في المآلات¡ قال ابن فارس في كتاب "الصاحبي" وقد سرد بعض المسائل التي من خلالها بيّن الفرق في اتساع النظر والرأي عند الصحابة بين ما كانوا عليه قبل الإسلام وبعده: "فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب -بتوفيقه- عما ألفوه ونشؤوا عليه وغُذُوا به إلى مثل الذي ذكرناه¡ وكل ذلك دليل على حقّ الإيمان¡ وصحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم".




http://www.alriyadh.com/1831288]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]