إذا تعلقت العبادة بالتعاطي مع الغير كالدعوة والنصح والنقاش العلمي فبالتيسير لا بالتعسير¡ وبالتبشير لا بالتنفير¡ والمسامحة في المعاملة مطلوبة في جميعها بدءاً بالمسامحة مع الأهل والأسرة والأقارب وزملاء العمل¡ وانتهاء بالتسامح في الأماكن العامة..
تعددت وتنوعت مقومات الشخصية التي بها يُحرزُ الفاضل التميز عن المفضول¡ ويستحق المتصف بها التقدير والثناء¡ وبها يصير المرء صالحاً لأن يكون أسوة حسنة لغيره¡ وأغلب هذه المقومات متعلقة بكيفية التعامل مع الآخرين¡ فمتاعب التعامل مع الناس لا يواجهها بالحكمة ورحابة الصدر إلا الكريمُ الموفَّق¡ ولم تسر الركبان بشهرة بعض الناس بالكرم والحلم مثلاً إلا لأن ذلك الكريم صبر نفسه على إلحاف الملحفين¡ وذاك الحليم تجرَّع الكثير من مرارة الأذى فصبر عليها¡ وإن من الصفات النبيلة التي ينبغي لكل إنسان أن ينافس فيها المتنافسين صفةَ المسامحة¡ وهي الملاينة وعدم التعسير والتضييق في المواقف والمعاملات¡ وتتضح أهمية المسامحة بأمورٍ منها:
أولاً: أن من صفات ملتنا الحنيفية أنها سمحةٌ¡ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أَحَبُّ الدِّينِ إلى الله الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحة) ذكره البخاري تعليقاً¡ ثم أسند حديثاً بمعناه¡ وهو حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ¡ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ¡ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا¡ وَأَبْشِرُوا¡ وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)¡ وفسروا الملة السمحة بأنها التي لا حرج فيها ولا تضييق فيها على الناسº وذلك لأن الله وضع عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على بنى إسرائيل في شرعتهم¡ كما أن هذه الملة لم تشرع لها الرهبانية التي ابتدعها النصارى وما رعوها حق رعايتها¡ فلا يتعبد فيها بترك النكاح ومواصلة الصيام¡ ولا يشرع فيها حرمان النفس مما أحلَّه الله من أنواع الطيبات¡ وفي تشريعاتها من التيسير ومراعاة الأحوال والظروف ما هو مبثوث في كتب الفقه¡ وعباداتها البدنية لا تخلو من شروط إيجابٍ¡ ورخصٍ مزيلةٍ للحرج عند حلول المشاقِّ¡ والحرج منفيٌّ عنها بالنص¡ قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)¡ وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)¡ وكل هذا درسٌ عظيمٌ للمسلم يلهمه أن يكون سمحاًº لأنه ينتمي إلى ملةٍ سمحةٍ¡ وليكن ديدنُه التيسيرº فإن ربه يريد بهذه الملة اليسر.
ثانياً: أنها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية¡ فمن القولية حديثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه¡ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ¡ قَالَ: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا¡ وَبَشِّرُوا¡ وَلاَ تُنَفِّرُوا» متفق عليه¡ وأما السنة الفعلية فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأمثلة للمسامحة والمعاملة بالتي هي أحسن¡ فلا تطالع في السيرة النبوية حدثاً معيناً يتعلق بمعاملة الناس إلا خرجت منه بدرسٍ نافعٍ في هذا الباب¡ وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا¡ قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ¡ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ¡ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ¡ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ¡ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ) متفق عليه¡ هكذا شأنه منذ نشأ¡ ولما بعثه الله بالهدى وكذبه من كذبه من المشركين¡ وناصبوه العداءَ لم يتجرؤوا على أن يصفوه بعكس هذا¡ فلم يكن حسن خلقه محل خلافٍ يوماً ما.
ثالثاً: المسامحة من الخصال التي يُثابُ عليها فاعلها¡ وهي من أسباب مغفرة الذنوب¡ وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للسَّمحِ بالمغفرة¡ فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ¡ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ¡ وَإِذَا اشْتَرَى¡ وَإِذَا اقْتَضَى» أخرجه البخاري¡ قال بعض العلماء: (السَّمح): السَّهل¡ رتب الدعاء عليهº ليدل على أن السهولة والتسامح في المعاملة سبب لاستحقاق الدعاء¡ ولكونه أهلاً للرحمة¡ وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله تعالى عنه¡ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ¡ فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا¿ قَالَ: لَا¡ قَالُوا: تَذَكَّرْ¡ قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ¡ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ¡ قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ)¡ وفي رواية: (أَنَّ رَجُلًا مَاتَ¡ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ¡ فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْمَلُ¿ - قَالَ: فَإِمَّا ذَكَرَ وَإِمَّا ذُكِّرَ - فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ¡ فَكُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ¡ وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ - أَوْ فِي النَّقْدِ - فَغُفِرَ لَهُ» متفق عليه.
وفي الختام: المسامحة تظهر في شتى أفعال المرء¡ فمن ذلك العبادات¡ فالطريقة السمحة فيها إيقاعها على الوجه الشرعي بلا إخلال ولا تنطع¡ وإذا تعلقت العبادة بالتعاطي مع الغير كالدعوة والنصح والنقاش العلمي فبالتيسير لا بالتعسير¡ وبالتبشير لا بالتنفير¡ والمسامحة في المعاملة مطلوبة في جميعها بدءاً بالمسامحة مع الأهل والأسرة والأقارب وزملاء العمل¡ وانتهاء بالتسامح في الأماكن العامة.




http://www.alriyadh.com/1831817]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]