الفقه الإسلامي واسع المدى¡ والشأن ليس فيهº وإنما في المتلقي عنه والمتعامل معه¡ وهو بنصوصه وكلياته وقواعده ونظرياته يفي بالحاجات الإنسانية المتجدِّدة¡ وهذا الفقه بما حوى من اتجاهات واجتهادات متنوعة لا يخرج عن مجموعه مصلحة معتبرة¡ أو مبدأ حكيم¡ أو نظرية معقولة¡ أو اتجاه سديد..
إن الوقوف عند أقوال المذاهب في الفقه ليس علمًا¡ فكلٌ يستطيع لا سيما مع أدوات البحث الإلكترونية أن يستحضر جميع الأقوال في لحظة واحدة¡ كما أن الغفلة عن هذه الأقوال جهل محض.
إذن عند أي نقطة يبدأ الفقه¿
لو جئت إلى دكَّانين "والدكَّان في لغة العرب: المتجَر¡ يقال: دَكَنَ المتاع¡ أي: رتَّبَ بعضه فوق بعض في نظام" وكان هذان الدكانان يبيعان "الخِفاف" إلا أنَّ أحدهما إذا لم تجد عنده مقاسك صنع لك جديدًا يناسبك¡ والآخر لا يستطيع ذلك¡ فمن منهما يستحق لقب الخفَّاف¿
بهذا المثال الذي استعاره ابن رشد الحفيد في كتابه "بداية المجتهد" من أرسطو بين أن الفقيه ليس هو الذي يحفظ المسائل ولكنه الذي يستطيع - بناء على تمكنه من مسالك الاجتهاد - أن يعطي الأحكام للمسائل الجديدة.
الفقه رحب الأفق وبعيد النواحي¡ والذي يتمكن منه لا يجد أنه قادر على النظر في المسائل المستجدة فقط¡ بل يجد -أيضًا- أنه قادر على أن يشارك الإنسانية في اجتهاداتها الحقوقية والقانونية¡ وأنه قادر على أن يقدم الفقه الإسلامي بثوب جديد يفوق أحسن ما توصلت إليها النظريات الحديثة.
كل هذه التداعيات ترامت إلى ذهني وأنا أطالع مقولة لسفيان الثوري "وهو الإمام المعروف¡ وكثير من الناس يعرفه محدِّثا¡ لكن - أيضًا - كان فقهيًا بل رأسًا في الفقه حتى قال يحيى القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كلِّ شيء".
يقول سفيان: بع الحلال ممن شئت. وهو يقصد بذلك: أنه ما دامت العين المبيعة حلال في نفسها فالبيع صحيح حتى لو اعتقدت أن المشتري سيستخدمها في حرام¡ مستندًا في ذلك إلى أن البيع قد تَمَّ بأركانه وشروطه¡ والله تعالى يقول: "وأحل الله البيع" ولا شأن للبائع بعد ذلك بباعث المشتري على شراء هذه السلعة.
بينما بعض العلماء يرون الاعتداد بهذا الباعث الذي حمل المشتري على شراء السلعة فيحرمون البيع¡ ويبطلون العقد إذا كان الباعث محرمًا مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". والطرفان يتفقان على أن الباعث المحرم إذا ذكر في العقد فإن ذلك يحرمه ويبطله.
إذن المسألة في الباعث إذا لم يذكر في العقد هل يعتد به أو لا¿ وهل يبحث عن الباعث خارج العقد أو لا¿
هنا المدارس الفقهية اتجهت اتجاهين: الاتجاه الأول أن الباعث لا يعتد به¡ ولا أثر له في العقد إذا لم تتضمنه صيغة العقد وهذا ما عليه مدرسة الأحناف والشافعية¡ يقول الشافعي في "الأم": "أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين وأجزته بصحة الظاهر¡ وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أُظهرت كانت تفسد البيع". والاتجاه الثاني أن الباعث يعتد به سواء ذكر في العقد أو لم يذكر ما دام أنه معلوم¡ فإن كان الباعث مشروعًا فالعقد صحيح¡ وإن كان غير مشروع فلا يصح العقد.
وحينما نذكر هذين الاتجاهين في المدارس الفقهية الإسلامية¡ فإنهما بعينهما موجودان في الفقه الأجنبي¡ فالمدرسة الألمانية تتميز عن المدرسة الفرنسية بأنَّ نزعتها موضوعية لا ذاتية¡ فهي تركز على العقد ولا شأن لها بما يدور في نفس المتعاقد ولو علم بنيته الطرف الآخر¡ وهذا بعينه اتجاه الحنفية والشافعية.
وعندما بحث فقهاء الألمان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نظرية الإرادة الباطنة خلصوا إلى أنَّ العبرة بالإفصاح¡ إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به وأن يرتب أحكامه عليه¡ وأن الباعث إذا أريد الاعتداد به فلا بُدَّ أن يندرج في التعبير ليصبح جزءًا منه¡ ونتيجة ذلك: استقرار التعامل.
بينما المدرسة الفرنسية تقول: إن الباعث يجب النظر إليه¡ ويستخدم لحماية المشروعية في التعاقد. وهذا بعينه اتجاه المالكية والحنابلة¡ ومن هنا اختلفت المدرسة الألمانية مع المدرسة الفرنسية في العقد¡ فالأولى تقف مع المظاهر المادية المحسوسة فنظرتها موضوعية¡ والأخرى تنفذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية.
إن الفقه الإسلامي واسع المدى¡ والشأن ليس فيهº وإنما في المتلقي عنه والمتعامل معه¡ وهو بنصوصه وكلياته وقواعده ونظرياته يفي بالحاجات الإنسانية المتجدِّدة¡ ومصالحهم المتغيرة¡ وهذا الفقه بما حوى من اتجاهات واجتهادات متنوعة لا يخرج عن مجموعه مصلحة معتبرة¡ أو مبدأ حكيم¡ أو نظرية معقولة¡ أو اتجاه سديد.
ملحوظة: بُني هذا المقال من كتابات الشافعي في الأم وابن قدامة في المغني والسنهوري في مصادر الحق.




http://www.alriyadh.com/1837377]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]