إن الإسلام هو دين الإحسان¡ وإحسانه يقوم على أصلين يشمل الدينَ كلَّه¡ وهما: الإحسان في عبادة الخالق¡ والإحسان إلى المخلوقين. وكل الخلق موضع للإحسان حتى الحيوان¡ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي كل كبد رطبة أجر"..
شاركت ضمن الملتقى الذي نظمه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بعنوان: "نتحاور لنتسامح" مع عدد من الفضلاء للحديث عن التسامح من خلال محاور علمية وعملية. وقد نُظِّم هذا الملتقى تفاعلاً مع اليوم العالمي للتسامح.
قلتُ في مشاركتي تلك عدداً من الأفكار والمقولات:
قلتُ: إن التسامح لفظٌ متداول - الآن - في كل اللغات الإنسانية¡ وهذه اللغات قد تقترب أو تبتعد من مدلول التسامح الذي تقصده البشرية - الآن - أعني لغويًا. وعندنا في العربية فإن دلالات التسامح في اللغة تكاد أن تغطي التسامح الذي نقصده في هذه الورقة¡ فالتسامح في اللغة العربية يدل على السهولة والليونة¡ ويدل كذلك على المغفرة والتجاوز¡ ثم إنه يدل على العطاء والكرم عن سخاوة نفس. وإذا أردنا أن نعرِّف التسامح "كمصطلح" فلم أجد شيئًا - بحسب بحثي السريع والمختصر - يرضيني من جهة شموله¡ ولذلك اقترحت تعريفًا له بأنه: تقبل الآخر¡ والتعاون معه¡ والإحسان إليه.
وتوقفت مع هذا التعريف: بأن التقبل هو أدنى مراحل التسامح¡ وقد يتطور إلى مساحات أخرى بحسب تعريفنا¡ وهذا الآخر هو: المختلف عنكº قد يكون مختلفًا عنك دينًا أو عرقًا أو جنسية أو غير ذلك. ثم إن التعاون الوارد في التعريف أشكاله متنوعة جدًا وأغلب تعاملات البشرية قائمة عليه¡ والتعاون في الغالب ينطلق من المصلحة المشتركة بين المتعاونين¡ أما بالنسبة للإحسان والذي جعلناه الفصل الأخير من التعريف فهو ينطلق من جهة واحدة هي شخص المحسِن "كيانًا أو فردًا"¡ وإذا كان التعاون يقوم على المصلحة المشتركة¡ فإن الإحسان يقوم على القيم المقدرَّة لدى هذا المحسن.
وهنا - تحديدًا - توجهت إلى السؤال المحوري في حديثي¡ وهو: ما موقف الإسلام من التسامح¿ أو كيف نظر الإسلام إلى التسامح¿ للإجابة على هذا السؤال طبَّقتُ ما أعرف عن ديننا العظيم على التعريف الذي قدَّمتُه¡ وذلك حتى لا يكون الكلام عموميًا إنشائيًا لا تمسك منه شيئًا.
إذا نظرنا إلى الفصل الأول من التعريف "تقبل الآخر" فإننا نجد أن الإسلام جاء بأفضل من التقبل وهو التعارف في الآية المذكورة على كل لسان: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا)¡ ولا شك أن التعارف ينتج عنه مصالح كثيرة بين الأمم والشعوب¡ وبين الأفراد أنفسهم في هذا العالم¡ وينتج عنه علائق إنسانية متنوعة¡ وهذا يسهم في التسامح بصورة كبيرة.
والآخرُ هذا حفظ له الإسلام كلَّ حقوقه ابتداء من حياته¡ فحياة الإنسان في أقصى الشرق مقدّرة مثل حياة الإنسان الآخر في أقصى الغرب¡ والكل سواء أمام قول الله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا). كذلك فإن الإسلام حفظ حرية الاعتقاد من الإكراه على الدخول في الدين: (لا إكراه في الدين). وإذا كان عالمُ اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان¡ فإن الإسلام جاء بها وبما هو أوسع منها وأجلّ¡ وهو: الكرامة. قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) فكل حق للإنسان داخل في هذه الكرامة¡ وتزيد الكرامة على الحق بأنها تدل على سبب استحقاق الإنسان لهذه الحقوق وهي كرامته التي خلقه الله عليها. ثم إن الفصل الثاني من التعريف "والتعاون معه" قد جاء الإسلام بتقريره في أوسع نطاق ما دام أنه تعاون على الخير¡ قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى). فإذا ما جئنا إلى الفصل الأخير: "والإحسان إليه" فإن الإسلام هو دين الإحسان¡ وإحسانه يقوم على أصلين يشمل الدينَ كلَّه¡ وهما: الإحسان في عبادة الخالق¡ والإحسان إلى المخلوقين. وكل الخلق موضع للإحسان حتى الحيوان¡ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي كل كبد رطبة أجر".
ومما تقدَّم ندرك أن الإسلام حثَّ وشجَّع على إشاعة التسامح بين البشرية¡ بل - في الحقيقة - من التقصير أن نعبِّر عن موقف الدين الإسلامي من التسامح بهذه العبارة¡ فالحق أن الإسلام قائم على السماحة في عباداته وتشريعاته¡ وعلى التسامح في تعاملاته وأخلاقه¡ والنصوص القرآنية والنبوية توضح ذلك¡ كما أن تفصيلات أحكام الشريعة تؤكد هذه الحقيقة.
إن الحديث عن التسامح لدى الإسلام والمسلمين لا يأتي في سياق مسايرة الواقع الحضاري اليوم¡ بل هو نابع من حقائق هذا الدين¡ الذي هو - أيضًا - أي: التسامح¡ من مكامن ديمومته وإقبال البشرية عليه. ونستطيع أن نقول بعبارة مختصرة: إن التسامح ضرورة إنسانية¡ وفريضة شرعية. وإذا كانت البشرية فيما مضى من أزمان وعصور في حاجة إليه¡ فإن البشرية اليوم في ضرورة إليه¡ وإذا لم يكن التسامح فماذا يكون البديل¿!




http://www.alriyadh.com/1856346]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]