فمتى يكون لدى دولنا العربية وزارات للفكر والمعرفة¿ تحوي بداخلها كل من ظهرت عليه مبادئ الفكر والمعرفة وهي الدرجة الأعلى والأرقى للثقافة¡ فالمعرفة تستوجب أن نخبر خباياها التي ليست بالأمر اليسير¡ إذ إن المفكر هو العالم الفيلسوف والفيزيائي والإلكتروني واللغوي والجغرافي..
دائماً يختلط الأمر على كثير منا ذلك الفرق الكبير بين المثقف والمفكر على الرغم من وجود الفارق الكبير في الماهية والوظيفة¡ فهناك تناولات كثيرة تتساءل عن ماهية المثقف ولا تبحث وتتقصى عمّن هو المفكر¿! فالمثقف في تعريفه المعجمي (رَجُلٌ مُثَقَّفٌ: مُتَعَلِّمٌ¡ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ¡ أَيْ ذُو ثَقَافَةٍ)¡ أما المعنى الاشتقاقي له فهو من ثقف¡ وهو ما تمكن منه المرء وأدركه¡ كما أن ثقّف الرمح أي شحذه وسن سنانه¡ وثقّف الأرض أي زرعها وحرثها وأصلح شأنها¡ ويطلق على المثقف باللغة الإنجليزية (cultured).
ومن هنا نجد ذلك الاختلاف الكبير في المصطلحين المثقف والمفكر¡ حيث أن المفكر يطلق عليه باللغة ذاتها (thinker)¡ وإذا ما تأملناهما سواء في النحت اللغوي أو في المعنى لوجدنا ذلك المعنى المختلف بطبيعة الحال¡ ولذلك لابد أن نعي ماهية كل منهما¡ لكي نفهم واقعنا ودور كل منهما في نحت هذا الواقع والتأثير فيه¡ لأنه يجب أن نخبر أعماق الدور والمفهوم كضرورة حتمية في الوقت الراهن بشكل دقيق.
إن إطلاق المصطلحات في يومنا هذا أصبح سمة هذا العصر¡ على الرغم من أنه لا صناعة فكر أو ثقافة دون التقصي في المعنى والقبض على ناصية المصطلح¡ كما في الأبحاث العلمية التي أخذت منزوى آخر عن واقع الشارع الثقافي المتداول وأُكتفي بها متراصة على أرفف المكتبات!
مما لا شك فيه أن اسم المفكر وإطلاق هذه السمة عليه مشتقة من منبعها الأصلي وهو الفكر وإطلاق عملياته الدماغية في صنع الفكر الجديد¡ ولذلك يطلق عليه باللغة الإنجليزية (thinker) وهنا يظهر الفارق واضحاً وجلياً¡ لكن ثقافتنا تستخدم ذلك الخلط بين المعنيين وتطلق العنان على الكلمات لكي تطلق الصفة على كل من ادعى أنه مثقف¡ فالمفكر هو الذي يعمل فكره في تخريج وصناعة أفكار لم يخرجها أحد من قبله¡ أي هو (Creatur) وهي سمة المبدع على كل حال¡ وعليه نستطيع أن نقول باستنتاج منطقي: إن كل مفكر مثقف وليس كل مثقف مفكر.
إن ما دعاني لكتابة هذه السطور هو سؤال ملح على الدوام: أين المفكرون في وطننا العربي¿
والإجابة عن هذا السؤال شبه مستحيلة¡ وذلك ليس لندرة المفكرين أو استحداثهم¡ ولكن لأنهم انطمروا في بيئات غير حاضنة¡ وطاردة لا تنتبه إلى صناع الفكر¡ فالدول منذ نشأة الحضارة حتى يومنا هذا لا تقوم بالجيوش¡ أو بكل الوسائل التي يعرف حصرها قراؤنا الكرام¡ ولكنها تقوم على صناع الفكر واستنهاض التنوير ولذا أطلق عليهم التاريخ سمة التنويريين¡ لأنهم قناديل كل العصور المظلمة المتخبطة¡ وفي يومنا هذا ومع ضجيج كل مستوفد من أفكار وزخم ضجيج إعلام متناثر في الفضاءات المعلوماتية أتخم العقل البشري والعربي بشكل خاص حتى تأكسدت الأدمغة¡ نعتقد أن المنوط بصناعة هؤلاء واستنباتهم أو استجلائهم هي الدول نفسها والمؤسسات لاستخراج مافي رؤوسهم في أمان وحماية ومنعة وكرامة¡ فما المانع أن يكون لدى دولنا العربية وزارات يطلق عليها وزارات للفكر والمعرفة¿ تحوي بداخلها كل من ظهرت عليه مبادئ الفكر والمعرفة وهي الدرجة الأعلى والأرقى للثقافة¡ فالمعرفة تستوجب أن نخبر خباياها التي ليست بالأمر اليسير¡ إذ إن المفكر هو العالم الفيلسوف والفيزيائي والإلكتروني واللغوي والجغرافي وغير هذه العلوم جميعها تتفاعل في عقل بشري واحد يبني لنا دولة¡ ونعتقد أن تهاوي الدول في بلادنا العربية هو تآكل ذلك الجدار العتيق (المفكرين).
والإنسان بطبيعة الحال فطر على البحث عن المعرفة سواء كان أمياً أو متعلماً أم مثقفاً¡ بوصلة تبحث عن اتجاه فلا يجد سوى ألسنة مبلبلة ووجوهاً مقنعة متسلقة تبحث عن المال والسلطة فاتبعها من اتبعها بجهل وبلا معرفة فظهر الإرهاب والتطرف والتشدد والمذاهب المختلفة والتعصب وقل ما تشاء¡ ذلك لأن الجدار الصلد المشيد للدولة هو الفكر والتنوير¡ ولذا يتحتم أن تنشأ وزارات للفكر والمعرفة لصناعة الفكر والمعرفة للنهضة ولتشييد الرأي العام فقط¡ محتمين بسياج رسمي مؤسساتي من التنمر والتعصب والتشهير الذي جعل مفكرينا وهم كثر يتوارون -إلى حد الاختفاء- خشية وكرامة وعزة وترفع¡ وذلك ما أودى بواقعنا إلى هذا الاضطراب المقيت!
لقد كان القرن التاسع عشر ناهضاً تنويرياً شمولياً¡ ذلك لأن المفكر فيه كان يؤتى حقه –من الدولة قبل الأفراد- من الأمان والاحترام والشموخ¡ فكان هناك مفكرون شيدوا وصنعوا دولاً ومستقبلاً أمثال السيد أحمد خان¡ رفاعة رافع الطهطاوي¡ علي مبارك¡ عياد الطنطاوي¡ جمال الدين الأفغاني¡ وكان مصطفى محمود¡ والشعراوي¡ والرافعي وغيرهم في القرن العشرين¡ ولذلك ظهرت لنا نخب هي الآن المتبقية على الساحة إلا أنها لا تحمل الراية نتاج ما ذكرناه سلفاً من إهمال مؤسسي أو تنمر اجتماعي وما إلى ذلك.




http://www.alriyadh.com/1856915]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]