«عندما بدأت الكتابة كان رصيدي من القراءة هزيلا¡ وكنت شخصا قد تعلمت بمفردي من الناحية الأدبية¡ لقد بدأ تشكيلي الأدبي خلال الحرب. كنت أقرأ الكتب التي تصدرها دور النشر الإيطالية مثل - سولاريا - ..»
( إ/كالفينو)

كتابة السرد ليس من السهولة أن تتاح لكل صاحب قلم¡ إذ أن من اشتهر في العالم بهذه الميزة الكتابية هم مميزون في حياتهم العامة وفي تشكيلهم الثقافي حيث تكون الموهبة هي الركيزة الأولية المساندة للتخيّل¡ ولكنها لا تنمو إلا بالثقافة المتنوعة حيث تمكنها كثرة الاطلاع التحصيلي على الكتابات المختلفة في الشؤون العامة مع ممارسة التجارب الحياتية التي يمر بها الموهوب الذي عمل على تنمية معارفه مما أمده في توسيع دائرة أخيلته لكي تمكنه من الوصول للمسيرة السردية على ضوء ما كان له من الإلمام الثقافي والمعرفي¡ فالقراءة في السرد بأنواعه سيرة/قصة مع النيل من الشعر والتاريخ والتحولات الاجتماعية وكذلك العلوم الطبيعية والإنسانية كزاد لا احتراف تتكون الروافد التي تعطي الكاتب القدرة على الفسحة والتفنن في العطاء المُمَكّن من الدخول بقوة في مجال القصة/ الرواية¡ وفي سِيَر واعترافات وذكريات كتاب الرواية يبرز عامل الاطلاع فيما يذكرونه من مسميات لكتب وكتاب¡ وحتى في بعض الأعمال يكون متكئاً على أعمال سابقة تتأتى عرضية في العمل عبر شخصية تمثل كاتبا أو مثقفا بأنه قد قرأ لكاتب يرد اسمه مع مؤلف أو مؤلفات لآخرين كانت لهم مساهمات خالدات.
الكاتب الإيطالي الشهير (إيتالو كالفينو) تميز بغزارة نتاجه الدال عن سعة اطلاعه في المعارف عامة¡ ودقة ملحوظاته فيما حواليه من بشر وطبيعة¡ وفراسة في معرفة جوانية المقربين إليه كما يعتبرها مقياسا على الأبعدين¡ ويعمل في قصصه أو رواياته شتى المهن عبر الشخصيات التي يرسمها بدقة في أعماله الكثيرة التي ترجمت إلى اللغات العالمية وكان نصيب العربية منها وافراً كـ (روايات - ناسك في باريس - السيد بومار - لو أن مسافرا في ليلة شتاء - الفارس المشطور - الفارس الخفي - قلعة المصائر المتقاطعة - وقصص:- الهزل في قصص الأزل - ماركو فالدو - وغيرها) ولأن الموضوع من عنوانه الذي قصدت من خلاله أن أبين أن قصص (ماركو فالدو/أ والفصول في المدينة) وهي مكونة من عشرين قصة كل قصة مخصصة لفصل من فصول السنة مثل -الربيع/نبات الفطر-الصيف/ على معقد الحديقة-الخريف/ حمامة البلدية - الشتاء - المدينة الضائعة بين الثلوج - وبتكرار الفصول حتى تبلغ عشرين قصة بعناوين مختلفة¡ فالأمر هنا يكون معتادا لو أن كل قصة لها شخوصها أو شخصيتها التي تمهد للحدث ثم النهاية المعهودة¡ لكن كالفينو جعل شخصية وربما شخوص هذه القصص مختلفة الأحداث مجموعة في شخص واحد مع أسرته تتكرر أسماؤهم في كل قصة مما جعل القارئ المتلقي يقرأ وهو يتنقل مع فصول رواية كل فصل يرتبط بالآخر بالشخصيات لا بالحدثº لكون الرواية فصول تربطها الأحداث المتسلسة والمتسقة مع بعضها في عملية السرد¡ فبطل القصص هو (ماركو فالدو وأسرته فأولاده - ومديره في العمل وبعض زملائه) فأولاده: ميكيلينو وزوجته لهم تواجدهم في العشرين قصة. « كم عدد أولاد ماركوفالدو¿ أربعة خمسة أو حتى ستة¡ بل إنه يخطئ مرة في تعدادهم فيقول للطبيب: إن لديه ثمانية أفواه يجب عليه أن يشبعها بالأكل - يخبرنا الرّاوي أن ماركوفالدو هو عامل دون خبرة¡ ولا تجبره نوعية عمله إلا على جهود غريزية يمكن أن تقتصر على تحريك أثقال وتترك ذهنه حراً لكنه لا يستعمل ذهنه كذاكرة بل كمجرد خيال.. حزين دون حنين¡ يعاني من خيبات الأمل الكثير ولكنه لا يعرف الحقد إنه إنسان كامل يمثل إمكانات المستقبل جاهز لأن يجرب نفسه في كل المهن».
في القصص العشرين ينجح كإنسان بإنسانية التي تشمل وتغمر حياته¡ هذا الفقير العامل الطيب¡ تجرّه وتوقعه طيبته إلى الوقوع في مشكلات اجتماعية وصحية وعملية¡ يُقدْم بكل جرأة على أعمال ليست في صالحه¡ فربما سمع كلمة عن طعام ما أنه يشبع لأيام عدة مثل وجبة تكفي أياما يصدق ويبحث عن ذلك وتكون عاقبته أن يكون في المشفى والأسرة لأن ما أكله كان مسموما بعقاقير نظافة أو ما يشابهها¡ ففي قصة (نبات الفطر في المدينة) كان في طريقه إلى عمله مهموما بمعيشة أسرته حيث لا مال لديه فهو في منتصف الشهر تقريبا ذهب الراتب في إعاشة المنزل¡ مر في ذلك اليوم العاصف المغبر وهو منحن عيناه في الرصيف الذي يسير عليه لمح حولا لأشجار الممتدة على الطريق بعض النتوءات التي ترتفع عن مستوى الأرض المحيطة بتلك الأشجار¡ استغرب من ذلك فاقترب منها وتفحصها وعرف أنها نباتات فطر¡ وبعد أن عاد إلى المنزل تذكر نباتات الفطر وأنها ربما حان وقت قطافها «لم يكن يدرك الساعة التي في وسعه أن يخبر فيها زوجته وأولاده الستة إلا وبادر بالأمر: «اسمعوا وعوا ما أقوله لكم -أعلن خلال وجبة العشاء البائسة- إننا سنتمكن خلال هذ الأسبوع من تناول الفطر¡ صدقوني ستكون وجبة شهية» وشرح لهم ما هو الفطر وأنه غذاء يسد الرمق وكذلك مشبع ولذيذ مما حدا بزوجته (دومنيتلا) للريبة¡ ولكن الأولاد استفسروا منه أين يوجد هذا الفطر¡ وخشي أن يعلمهم فينقلوا لأصدقائهم فيخسر واحتفظ لنفسه بمعرفة المكان¡ وعندما حان قطاف الفطر ذهب ليفجأ بعامل النظافة حوله فأخذ يحوم من بعيد ويراقبه فأجل العملية ليوم آخر.
عندما حل اليوم الذي حدده ذهب وأولاده وهجموا على المنتج الأرضي بشراهة يملأ كل منهم سلته حيث انتشروا عند الأشجار¡ وفي ذلك الوقت تنبه ابنه – «انظر إلى ذلك الرجل كم قطف منه¡ وعندما رفع رأسه رأى العامل وهو يحمل على ذراعة سلة مليئة بالفطر» وتبعهم آخرون في جني المحصول وتوجهوا إلى بيوتهم يحمل كل واحد محصوله» غير أن المشكلة أن الجميع التقوا مساء في الممر نفسه داخل المستشفى بعد أن أجروا لهم غسيل المعدة الذي أنقذ الجميع من التسمم المحقق لأن كمية الفطر التي تناولها كل منهم كانت قلية» وكان السبب بالطبع هو أن الأشجار ترش دائما بالمبيدات الحشرية للحفاظ عليها من الحشرات¡ وكان لقاء ماركو فالدو بصاحب السرير الذي بجانبه بالعامل -أوما ديجي- وكانت نظرات العداء والريبة كما يقول (إ/كالفينو)¡ الذي ظل يجرجر (ماركوفالدو) عبر عشرين قصة بأسلوب ظريف فيه الكثير من العبر والإشارات التي يكون فيها بطله عرضة للمشكلات التي يذهب إليها بنفسه المسالمة الطيبة.
تنقل ماركوفالدو في القصص عبر خيط يربط القصص ببعضها مع اختلاف أحداثها كشخصية رئيسة جعل من العمل رواية في قصص¡ مما يؤكد أن الرواية ماهي إلا أحداثا متشابكة تبدأ من الانطلاقة الأولى في شخصية يجسمها الراوي سواء بخطاب الذات نفسها أو بوصف الحدث من قبل الراوي الآخر الذي يجسده الكاتب (والقصرواية) هي القصص المكونة للرواية وقد برع كالفينو في (الفصول في المدينة) كما في غيرها من أعماله اللافتة التي جعلت منه مدرسة في فن كتابة الرواية.
إيتالو كالفينو





http://www.alriyadh.com/1857007]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]