من المعلوم أن شعراء العصور القديمة لم يولوا العنوان اهتماماً كبيراً على نحو ما هو معروف اليوم عند كثير من المعاصرين¡ وربما لم نجد قديماً قصائد يعمد الشاعر إلى وضع عناوين لها إلا متأثراً¡ أو تكون من وضع النقاد المنفعلين¡ كما في قصائد: (المعلقات)¡ و(البتارة)¡ و(اليتيمة)¡ وغيرها من الأوصاف التي كانت تطلق على القصائد النابعة من غير أصحابها¡ أو أربابها¡ وهو ما يشير إلى أن الأقدمين لم يحفلوا بوضع عناوين لقصائدهم¡ ولم يهتموا بوضع عنوان للديوان كاملاً¡ ولم يهتدوا إلى جماليات ذلك العنوان¡ على الرغم من اهتمامهم بالبيت والبيتين¡ وخلع بعض الألقاب والأوصاف على بعض القصائد¡ وعلى الرغم من وجود مؤلفات أخرى ذات عناوين مميزة¡ فلماذا غاب العنوان مع الدواوين الشعرية قديماً على الرغم من وجود كتب علمية¡ وأدبية كثيرة ذات علاقة¿!
وربما لم يكن القدماءُ حريصين كثيراً على الاهتمام بالعنوان كما هو الحال مثلاً عند أهل زماننا¡ وإن كانت لديهم بعض إرهاصات وبوادر¡ لكنها تعد شحيحة على كل حال¡ نذكر منها مثلاً (سقط الزند) لأبي العلاء المعري¡ والحق أنني لم أجد ديواناً قديماً مشابهاً له في فكرته العنوانية¡ وربما تكون هناك دواوين أخرى لكنها نادرة¡ وهو ما يشير إلى أن وضع العنوان على الديوان قد لا يكون أمراً ذا أهمية لدى شعراء العصور المتقدمة¡ بل إن لجوء القدامى إلى توظيف العنوان لم يكن يتعدى الدواوين المجموعة¡ أو شعر المختارات¡ ومع ذلك فالعنوان لم يكن يجاوز حدود الوصف العام ذي الطابع الانفعالي¡ كوصفهم مادة الشعر بالاختيارات¡ والمنتخبات¡ والمنتقيات¡ والجمهرة¡ والحماسة¡ وربما عُزيت تلك المادة الشعرية إلى أسماء أصحابها على نحو ما هو معروف في (المفضليات)¡ و(الأصمعيات)¡ و(الحماسات)¡ ولعل أسباب هذه الظاهرة أكبر من أن تُبسط هنا¡ لكنها مثار بحث على أيّة حال.
أما اليوم فيشكّل العنوان عتبةً مهمة من العتبات النصية بوصفه نصاً موازياً ومحاذياً¡ وبصفته علامة سيميائية تشي بالكثير من الدلالات الجمالية المتنوعة¡ فهو علامة لغوية جوهرية ذات أبعاد مختلفة¡ وقد اكتسب طابعاً مميزاً في العصر الحديث¡ وصار سمة عامة¡ وركيزة مهمة ورئيسة لكل مؤلَّف¡ بل إن الناظر في عناوين الدواوين الشعرية في عصرنا هذا يلمس فيها نمواً متصاعداً نحو شعرية العنوان وجماليته¡ ويمكن مشاهدة ذلك في عناوين كثيرة ظهرت مع الشعراء المعاصرين من قبيل: (كي لا يميل الكوكب - نسيان يستيقظ - جمر من مروا - يكاد يضيء - عمرٌ يزمله القصيد - سماوات ضيقة - للحلم رائحة المطر - لا أعرف الغرباء أعرف حزنهم - مزاجها زنجبيل - أرجوحة من قلق - تراتيل - رحيل آخره التفات...)¡ ويلحظ أن هذه العناوين المتنوعة تدل دلالة واضحة على أن المعاصرين اليوم أصبحوا أكثر حفراً في أعماق العنوان¡ والبحث عن جماليته من المحدثين¡ ومن سبقهم من القدماء.




http://www.alriyadh.com/1857001]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]