سبق أن كتبت في هذه الجريدة الموقرة¡ عن التلوث بكل أشكاله¡ وألوانه¡ وقد اشرت إلى أن "كل شيء مفترض فيه أن يكون نظيفاً¡ فطبيعة الأشياء في أصلها النظافةº فالقذارة¡ أو التلوث¡ هما الجانب الشاذ الناقص¡ أو المشوه¡ أو غير الطبيعي في الشيء. فهو إذاً نتيجة لشيء آخر غير طبيعي".
إن التشويه قد يكون وضع الشيء في غير موضعه¡ وبهذا فالقبح أحياناً عمل تركيبي¡ أي عندما تضع الأشياء في غير مكانها¡ فأنت تساهم في عمل التشويه والقبح.
فحين تضع عقداً من الألماس على جيد شمطاء¡ فانت تساعد في خلق صورة قبيحة¡ ومثله تماماً أن تضع سرج الفرس¡ أو سرج الجواد على ظهر بقرة¡ أو ثور.
هذا في الجانب المادي. أما في الجانب الفني¡ فالمسألة تظهر أكثر تعقيداً¡ وتشويهاً من الصورة الحسية¡ وذلك كأن تضع ثوراً بشرياً في غير مكانه المناسب¡ وخاصة في الأعمال ذات الصبغة الإبداعية¡ لا ذات الصبغة العضلية¡ كأن تضع جاهلاً ¡أو تيساً¡ يدير مثقفاً¡ أو عالماً. فهذا العمل هو نوع من أنواع القبح والتلوث.
وبمناسبة الثيران¡ والتيوس فقد كثر هؤلاء على أرضنا.. وربما في سمائنا!!
قطعان من هؤلاء صاروا يرعون في حقولنا الثقافية¡ يثغون¡ ويطرحون أذاهم¡ ولا أحد يطردهم¡ أو يحاول إخراجهم. ها هم يرتعون في الجرائد¡ والمجلات. بل وعلى شاشات التلفزيون¡ وفي شبكات الانترنت¡ وعلى أرصفة¡ وساحات المقاهي الثقافية. هؤلاء مؤهلون بالجهل¡ مدججون بالسذاجة¡ وبما يمتلكون من قدرة على المسخ والتشويه.
وهذا نوع من أنواع التلوث¡ فوضع الشيء في غير موضعه هو ضرب من ضروب القبح كما أسلفت¡ ووجه الثقافة صار قبيحاً¡ وصار يزداد قبحاً بسبب هؤلاء المجاذيب¡ والرقعاء الذين دهموها¡ واقتحموها عنوة فأفسدوها¡ وأحدثوا فيها.
• قلت لك يا صديقي أن التلوث أمر خطير¡ وأن التلوث صار ظاهرة عصرية أممية¡ وأن التلوث عبث أخلاقي¡ تحول إلى مهنة عبثية¡ فصار كلّ يلوث على شاكلته!! تلوثت السماء بسحب البارود¡ ودخان القنابل¡ والصواريخ¡ وتلوثت الأرض بدماء الأبرياء¡ والعزل¡ والمساكين¡ والمغدورين¡ وتلوثت الكرامة¡ والوطنية بالعملاء والأذناب.. فهناك من يعلن اليوم أن الاحتلال حق مشروع للمحتل..!! وأن قتل الأطفال في العراق¡ والشام¡ وفلسطين محلل¡ ومباح للغزاة والظلمة والمجرمين..
لوثت الطبيعة بشكل مجاني¡ وغير أخلاقي. فالزهرة تلوثت¡ قطرة الماء تلوثت¡ نسمة الهواء تلوثت¡ لون البحر تلوث¡ إشراقة الصبح تلوثت¡ كل شيء في وجودنا الطبيعي صار مخلوطاً بالسم¡ والمرض.
• الأخلاق والقيم هي الأخرى تلوثت¡ بل إن هناك مؤسسات¡ ومراكز¡ مهمتها صناعة التلوث الأخلاقي. لقد انهارت القيم الإنسانية النقية¡ الراقية¡ وحلّت محلها أخلاق بهيمية منحطة¡ منحدرة¡ يخجل الحيوان من ممارستها. أخلاق مريضة بالشذوذ¡ والمخدر¡ والعربدة¡ واللصوصية¡ وممارسة العنف. أخلاق لا تعرف الرحمة¡ ولا الحب¡ ولا الله.
لقد تحولت مدرسة الأخلاق الإنسانية¡ إلى مزبلة تفوح منها الروائح المنكرة¡ والعفنة..
• ودخان التلوث امتزج بالاقتصاد¡ ودخل سوق المال. لم تعد هناك معاملات قائمة على التبادل المنفعي الإنساني¡ فتحول الاقتصاد إلى بحر تعوم فيه الحيتان المتوحشة الضخمة التي تفترس كل شيء.
حرائق الجوع تحرق نصف الكرة الأرضية¡ وحرائق مزارع القمح تلوث السماء. جثث موتى الفقر¡ والجوع¡ تغرق في الرمل¡ والتراب¡ وأغذية الكلاب تملأ أسواق المدن الراقية. والأصابع الاقتصادية الملوثة¡ تستطيع أن تسقط دولة غنية¡ وتحول شعبها من حالة الغنى¡ إلى حالة الجوع¡ والعدم. المؤكد أن زحف التلوث قادم بقوة¡ واندفاع¡ ونحن لا زال فينا الكثير من النظافة¡ ولا يزال بيننا الكثير من النظفاء¡ والأنقياء¡ فهل نصمد أمام معركة التلوث¿ أرجو ذلك....




إضغط هنا لقراءة المزيد...