تتكون موسوعة بغداد الثقافية في العصر العباسي الذهبي¡ أو ما يطلقون عليه (زبدة الحقب)¡ من 21 مجلدا¡ ألفها وجمعها د. خيرالله سعيد على امتداد 35 عاما¡ حيث رصد عبرها أبرز تضاريس المرحلة الثقافية (آداب¡ فنون¡ تيارات فكرية) وجعلها صنوا ملازما للحضارات المستقرة.
هذه الموسوعة الضخمة التي رصدت فقط العصر العباسي في مدينة واحدة¡ وسط بحر لجي من الأقاليم والمدن المشابهة¡ تحيلنا إلى حيوية ثقافية وافرة كانت تكتنف الحواضر الإسلامية آنذاك.
ورغم التجاذبات الفكرية الحادة بين التيارات¡ والتي تقوم دوما تحت مظلة فقهية¡ إلا إن المناخ العام كان يفسح حيزا للتعايش والاستقلال بمنظور الرؤية.
فعلى سبيل المثال مسألة إباحة الغناء آنذاك¡ ظلت قضية خلافية بين الفقهاء¡ ولاسيما مع الحضور المبجل لفنون الغناء وقتها في عموم الحواضر¡ ابتداء من بلاط الخلفاء وانتهاء بأسواق العامة¡ صاحب هذا طيف واسع من الفقهاء لا يبيح السماع فقط بل يطرب له¡ وعلى رأسهم الإمام الغزالي (من لم يحركه الربيع وأزهاره¡ والعود وأوتاره¡ فهو فاسد المزاج¡ ليس له علاج).
المفارقة أن حالة التنازع الفقهي حول إباحة السماع¡ ظلت دائرة أبدية تعيد استيلاد نفسها بلا توقف¡ دون أن يقبل البعض بأنها مسألة خلافية¡ بل على العكس ظل الوعاظ عبر التاريخ كلما بدأ نفوذهم بالانحسار وجماهيرهم بالضمور¡ أشهروا السكاكين¡ ورصفوا التهم¡ وتربصوا بالسقطات¡ للنيل من أهل الآداب والفنون¡ ملوحين بتهم الفجور والتهتك¡ رابطين الفنون بالإسفاف والتدني الخلقي وغياب المروءة.
ولعل ما يحدث ضد أي منشط ثقافي أو ترفيهي لدينا جزء من هذه اللزمة التاريخية التي تسعى إلى الهيمنة والاستحواذ¡ عبر تثوير العامة¡ والتهديدات المبطنة بالخروج¡ وتحدي القوانين¡ واستعمال المفردات الدينية بكثافة لفتنة البسطاء والعامة في دينهم.
حتى غدا الفن يتيما أعزل طريدا¡ لا ينال ما يستحقه من الاهتمام والتطوير¡ وينظر له بعين الريبة والحذر فلا ينزل أهله المنزلة التي تليق بهم¡ أو يتم احتواؤهم داخل معاهد وأكاديميات مختصة¡ كجزء حيوي ورئيس من القوى الوطنية الناعمة.
مما حجب الفنون عن القيام بدورها الطبيعي داخل المجتمعات¡ ذلك الدور الذي يهتم بالفنون كفطرة بشرية¡ داخل مسلك تصاعدي للسمو بالنزعات¡ وتهذيب الروح¡ وتطويع الغرائز¡ والاحتفاء بالجميل المبدع.
فماذا كانت نتيجة شح وتغييب الفنون والآداب عن الفضاء العام¡ وعن المناهج الدراسية¡ وعن المواسم والفصول¿
شعوب تعاني من التصحر الجمالي¡ والعنف السلوكي¡ والانفلات الغرائزي¡ وازدواجية مجتمع يسدل على واجهته الأمامية ستائر الحشمة والوقار¡ ويضمر الأرقام المخزية في ارتياد المواقع الإباحية.. أو كما وصفهم الإمام الغزالي فاسد المزاج ليس له علاج.




إضغط هنا لقراءة المزيد...