''قصة''
الشيخ سليمان رجل وقور.. ربعة بين الرجال كما يقال.. وله لحية يخضّبها كل شهر مرة.. وبالذات إذا أراد النزول إلى المدينة.. ولذا تراها غالباً مقسومة الطرفين¡ الأعلى أبيض ناصع البياض¡ والطرف الأسفل أحمر داكناً.. وكان يكحل عينيه بالإثمد فترى جفنيه شبه أزرقين.. والشيخ سليمان هو مفتي البلدة في أمورها الفقهية.. فهو عاقد الأنكحة¡ ومسمّي الأطفال.. وهو الراقي يقرأ على المحسود.. وهو الذي يكتب الرقاع بالزعفران يشربها من أصابته العين¡ ويقال إن له عجائب في قراءة لدغة العقرب.. وفوق ذلك هو إمام جامع البلدة..
تقع بلدة: "الشعّف" في حضن طويق حيث تنتصب خلفها الجبال الشقراء الشاهقة¡ لذا فالشمس لا تشرق عليها إلا بعد ساعة من طلوعها حيث تلقي الجبال عليها ظلاً يشبه الخمار.. وبينها وبين السهل مسافة مترامية البعد.. يصعد اليها قاصدها عبر طريق كثير الالتواءات كأفعى الصخور.. ولقد احتفلت القرية بزفلتته إلى درجة أن بعضهم صاروا يخرجون ليلاً يفرشون فرشهم على أطرافه ويتناولون القهوة ابتهاجاً به. كان ذلك في الأيام الأولى من إتمامه..! وبالقرية آثار قديمة¡ وحصون¡ وقلاع يقال إنها من عهد طسم وجديس¡ يقول ذلك بعض باحثي الآثار.
ولكن أهلها يحتجون ويقولون نحن لا ننتسب إلى أطسام وأجداس وإنما نحن أبناء عرب أقحاح مع أن كلمة أقحاح لم يعرفها أهل البلدة إلا بعد فتح المدرسة..
هذا ليس مهماً فتاريخ القرية القديم لا يعنينا بقدر ما يعنينا أهلها وموقعها¡ ونخلها المتطاول المغبر الذي يذكرك بغبرة العصور¡ ومزارعها العطشة التي يحيط بها الأثل¡ والعشر¡ وتنبت في أطرافها شجيرات الحرمل¡ والجثجاث¡ والشري¡ والحلوة البريّة والنباتات الشديدة الشحوب.. إذ كأن مواسم المطر تراوغ القرية¡ وتماطلها في بخل وعناد.. فقد يمر موسم كامل ما نزلت عليها قطرة واحدة¡ ولذا ترى أهلها يتجمهرون ليلاً عند بوابة القرية الغربي إذا رأوا منظر البرق مقبلاً ولو كان ذلك في منتصف الليل¡ فيظلون يشومُونه¡ ويخيّلون سحابة¡ إما إذا نزل السيل من تلاعها ومصابها الشامخة وأخذ يلوح أبيض كالحليب¡ فتراهم يخرجون جميعاً نساء ورجالاً وأطفالاً¡ يخوضون¡ ويغتسلون فيه¡ ويحمدون الله على نعمته¡ ويسبحون بحمده¡ أما إذا طال أمد هطوله¡ فإن الشيخ يصلي بهم صلاة الشكر¡ ويوزع الأغنياء صدقات على الفقراء..
وذات صباح وبعد أيام مطيرة¡ عاد الشيخ سليمان¡ من صلاة الفجر وكانت عباءته ترشح بالمطر.. وكانت زوجته تعد له قهوة الصباح¡ قال لها في شيء من الرقة والحنان: يبدو أن الله قد أمرني بالحج هذا العام يا أم سعد.. فالأولاد كبروا وعليهم قضاء مناسكهم¡ وقد تحدثت مع ابن صالح لنكون مع (حملته) هذا العام.. قفزت أم سعد وقبلت رأسه ويده¡ وسالت دموع عينيها بهذا الخبر العظيم.. ولكن مشكلة ظهرت للشيخ فمن الذي سيتولى خطبة الجمعة بأهل البلدة إذ إنه من يتولى ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً ما تخلّف يوماً واحداً..¿ حتى وإن كانت خطبه من الخطب التقليدية القديمة فهو دائماً يقرأ من كتاب أصفر به خطب كتبت ربما منذ أكثر مئتي عام وهي مرتبة على جُمع العام فإذا انتهت السنة أعاد قراءتها من جديد وهكذا¡ وكان صوته خافتاً ضعيفاً يشبه الأنين¡ وكان يهش بيده وهو يقرأ¡ وربما قفز سطراً ثم أعاده بعد أن يصلح نظارته المقعرة فوق عينه حيث كانت الكلمات تتراوغ أمامه.. وكان لا يسمعه إلا الذين في الصف الأول¡ لذا ترى بعض المصلين قد أسندوا ظهورهم إلى الأعمدة¡ وقد اخذوا يدافعون النعاس عن عيونهم فتشاهد رؤوسهم تنخفض تارة¡ وترتفع تارة أخرى¡ وكان الحمام يقع على شرف المسجد فلا يذير ولا يطير بسبب سكينة المسجد وهدوئه أثناء الخطبة.. ولكنهم كانوا راضين بإمامهم كل الرضا بل لا يتخيلون الجمعة بدونه.. وظل الإمام مع جماعة المسجد في حيرة حول من يتولى الخطبة أثناء غيابه¡ وأخيراً وقع الاختبار على مدير المدرسة..
كان المدير فصيحاً بليغاً جهوري الصوت¡ وكانت خطبه هادفة¡ تتحدث مرة عن المعرفة¡ وكيف أن الأمم المتقدمة صناعياً لم تتطور إلا عن طريق العلم… ومرة عن التربية¡ وحسن السلوك والبعد عن قرناء السوء¡ ومرة عن النظافة¡ والنظام¡ وحقوق الجار¡ والبر بالوالدين.. فأُخذ الناس بخطبه¡ وصاروا يتدفقون على المسجد مبكراً يتدافعون نحو الصفوف الأمامية بالقرب منه وأصبح للمسجد يوم الجمعة ضجيج يشبه الرهجة¡ ومضت الأيام هكذا.. وذات يوم وقفت "حملة" ابن صالح وسط البلدة عائدة من الحج وكان يوم جمعة فهب المؤذن مسرعاً نحو بيت الإمام وقال: عجل¡ واخطب بالناس فان مدير المدرسة قد أحدثت خطبهُ في النفوس شيئاً عظيماً فافتتنوا به ونسوك.. فارتاع الإمام. ولم يكمل خضب لحيته فراح يبحث عن كتاب الخطب الذي نسي مكانه¡ وبعد عناء¡ واضطراب¡ وتفتيش وتنبيش عثر عليه¡ فلبس ملابسه في ارتباك فوضع حذاءه الأيمن في رجله اليسرى من العجلة ولكنه عندما وصل المسجد كان المدير قد شرع في الخطبة.. فتحيّر قليلاً ثم وقف أمامه واشّر له بيده كي ينزل من المنبر¡ ولكن المدير استمر في خطبته¡ فناداه طالباً منه النزول¡ فلم يلتفت إليه ولم يصغ له¡ فصعد درج المنبر الطيني¡ وجره من بشته¡ فدفعه المدير وظل يخطب¡ والناس حيارى مدهوشين غير مصدقين لكن الإمام اندفع نحوه بإصرار¡ وخطف الورقة من يده وسحبه بشدة¡ وقد أخذ المصلون يحوقلون¡ وبعضهم وقف وقوفاً لا إرادياً¡ وتدافع الاثنان¡ وسقطا تحت المنبر¡ وكان المدير فتياً شديداً¡ فعرك وجه الإمام فتكسرت نظارته¡ وسقط طقم أسنانه¡ وخرج الدم من فمه ولكنه ظل متشبثاً بالمدير يشدّه بشعره ويرفسه برجله ويعض أذنه¡ ثم أخذ جماعة المسجد في التفريق بينهما وأخرجاهما من المسجد.. وكان المدير يصيح: هذا متخلف¡ هذا محنّط¡ مع أنهم لا يعرفون معنى كلمة "محنّط" والإمام أيضاً ظل ينادي متأثراً قد انتفشت لحيته وانكشفت صلعته وهو يقول: أين أهل الدين¡ أين أهل النخوة¡ أصلي بكم أكثر من ثلاثين عاماً¡ وترون هذا الفاسق يفعل بي الأفاعيل¡ فلا تغضبون ولا تتحركون¿ أقسم أن لا أصلي بكم بعد اليوم..!!
وظل جامع القرية أكثر من شهر لا تقام فيه صلاة الجمعة غير أن أهل القرية بذلوا جهوداً مضنية من أجل الإصلاح بينهما وأخذوا بخاطر الإمام فاشتروا له ملابس وبشتاً جديداً وأدخلوا على بيته كبشين سمينين.. فعاد إلى كتابه القديم¡ وقد عاد معه الحمام والنعاس..!!




إضغط هنا لقراءة المزيد...