عبّر يوسف البديعي (ت1073هـ) عن انقسام موقف المتلقين من شعر المتنبي بعبارة يقول فيها عن الشاعر: «له شيعةٌ تغلو في مدحه¡ وعليه خوارجُ تتعب في جرحه». ويُشير البديعي في هذه العبارة البديعة لما يُمكن تسميتُه بظاهرة: «تطرُّف التلقي»¡ وهي ظاهرة لا يكاد يخلو منها عصرٌ من عصور الأدب. فعند التعامل مع نص الشاعر أو مع تجربته ينقسم معظم المتلقين إلى فئتين كبيرتين: الأولى تتشيع أو «تتعصب» للشاعر بتضخيم محاسن شعره والدفاع عن أخطائه وتبريرها¡ في حين تخرج الفئة الثانية على الشاعر برفض جيده ورديئه¡ وتجعل «من محاسنه عيوباً ومن حسناته ذنوباً» كما يُقال. وإذا كان لكل شاعر «شيعة» و»خوارج» فإن هناك فئة ثالثة – هي الأقل دائماً - تتمثل في فئة النقاد المنصفين التي تتعامل مع نص الشاعر بوعي وموضوعية بعيداً عن التضخيم أو التحقير¡ وقد كان البديعي من هذه الفئة عندما قال عن المتنبي: «إن له حسنات وسيئات¡ وحسناتُه أكثر عدداً¡ وأقوى مدداً¡ وغرائبهُ طائرة¡ وأمثاله سائرة».
تابع الجميع ردود الأفعال الواسعة على قصيدة الشاعر حيدر العبد الله الأخيرة¡ وهي ردود تُشكّل في معظمها نموذجاً واضحاً على ظاهرة «تطرُف التلقي». ولن أتحدّث هنا عن الشاعر ولا عن القصيدة ولا عن الإلقاء¡ فقد قيل وكُتب الكثير عن كل ذلك في الأيام الماضية¡ لكن الذي يهمني هو الإشارة إلى نماذج توضح حضور ظاهرة التطرف في تلقي الشعر تجلّت في أوضح صورها عند تلقي هذه القصيدة. ومن العجيب أن الآراء المتطرفة لا تصدر دائماً عن العوام من الناس¡ بل تصدر أيضاً عن مثقفين يكتبون في صحف كبيرة وينتمون لمؤسسات ثقافية معروفة.
فقد سمعنا أحدهم يُقوّل حيدر العبد الله ما لم يقل في قصيدته¡ ويُفسّر بعض ألفاظها بطريقة غريبة¡ ثم يُطالب بإيقاع أقسى وأشنع العقوبات عليه¡ في المقابل قرأنا هجوم أحد الكتاب المعروفين على مُنتقدي الشاعر ونعته لهم «بالغوغاء» و»الفقاقيع»¡ مع أن انتقاد الشاعر حق من أبسط حقوق المتلقي¡ كما أن استخدام بعض المتلقين للغة غير جادة تهدف فقط للإضحاك والسخرية أمرٌ مألوف لا يستدعي الانفعال¡ ولا يُبيح للكاتب استخدام لغة أكثر قبحاً وهي لغة الشتم والتحقير.
من الأمور الجيدة في موضوع تلقي قصيدة حيدر وقوف كثير من الشعراء الشعبيين الشباب موقفاً متوسطاً ومنصفاً بين المواقف السابقة¡ بحيث لا يجد المتابع في آرائهم التطرف إلى اليمين بالمبالغة في الحديث عن جماليات غير موجودة في القصيدة¡ أو في إلقاء الشاعر¡ ولا يلمس فيها المتابع أيضاً التطرف إلى اليسار بوجود انتقادات مبنية على أحكام مُسبقة أو تتحكم فيها عوامل أيديولوجية لا علاقة لها بالنقد الأدبي.
ولا يمكن أبداً وصف الآراء والانطباعات التي تصدر في الحكم على أي نص شعري أو أي تجربة شعرية نقداً أدبياً إلا إذا سلك فيها الناقد سُنن النقد الحقيقي واستخدم لغةً متوازنة وبعيدة عن التطرف في المدح أو القدح.




إضغط هنا لقراءة المزيد...