يختلف المسلمون كثيرا في فهم النصوص الفردية¡ يُشرّقون فيها ويُغرّبون¡ يذهبون في فهمها طرائق قددا¡ وينتهون في دلالتها إلى مذاهب شتى¡ ومن هنا خرجت لنا المذاهب¡ وتكاثرت في تأريخ الإسلام الأفهام والنحل¡ وللقارئ الكريم أن يُطالع قضية من قضايا العقيدة¡ أو مسألة من مسائل الفقه¡ ويرى مقدار خلاف الناس فيها¡ وكثرة نزاعهم حولها¡ وهي قضية جزئية تتعلّق بهذه المسألة أو تلك¡ ولها نصوص عددها قليل¡ وإحصاؤها سهل يسير¡ هكذا هو شأننا مع معظم مسائل العقيدة والفقه¡ وما زلنا حتى هذه الساعة ندور في فلك ترجيح هذا الرأي أو ذاك¡ وتقديم هذه الرؤية أو تلك¡ لم يمنعنا مضي الزمن¡ وتقادم الدهور¡ من أن نجد مجالا للنظر في النصوص¡ وميدانا للتجوال فيها¡ وهي تدور حول مسألة جزئية في الصلاة مثلا أو الحج¡ ولم نكتف بما تركه الأسلاف لنا¡ ونقف على ما وصلنا منهمº بل ذهبنا نُعيد دراسة تلك المسائل¡ ونجتهد في تبيان الراجح فيها¡ نُنازعهم في فهمهم لها¡ ونختبر صوابهم فيها¡ ونحن راضون عن أنفسنا¡ ومستبشرون بما نُضيفه على هامش الجزئيات الدينية¡ فما بالنا لا نُطبق هذه المراجعة في صورة الإسلام جملة¡ وفي صورة سيرة سيدنا عليه الصلاة والسلام كلها¿ لماذا لا نُعيد قراءة النص الإسلامي في جملته¡ ونُظهر منه ما يُخالف رؤيتنا¡ ويعارض تفكيرنا¿ لماذا لا ندرس السيرة من جديد¡ ونحرص فيها على ما يُصادم تصوراتنا¡ ويُباين مواقفنا¿ لماذا لا نبحث عن الصورة الراجحة في الإسلام جملة¡ وفي سيرة المصطفى كلها¡ مثلما نحرص على الراجح في القضايا الجزئية¡ والمسائل الفرعية¿
لماذا لا ندرس السيرة من جديد¡ ونحرص فيها على ما يُصادم تصوراتنا¡ ويُباين مواقفنا¿ لماذا لا نبحث عن الصورة الراجحة في الإسلام جملة¡ وفي سيرة المصطفى كلها¡ مثلما نحرص على الراجح في القضايا الجزئية¡ والمسائل الفرعية¿
إذا كنّا اختلفنا حول نصوص المسائل الجزئية¡ وتنوّعت أفهامنا لها¡ ومكثنا أربعة عشر قرنا نُعيد قراءتها¡ ونتأمل فيها من جديد¡ ونرى في ذلك عوائد على الدين جليلة¡ وفوائد لأهله كبيرةº فيُظن بنا أن نُعطي هذا للصورة العامة¡ والهيئة الكليّة¡ فنقرأ النص الديني عامة¡ ونراجع حوادث السيرة جملة¡ راجعناهم في فهم الجزئيات¡ والميدان فيها أضيق¡ والمجال معها أصعب¡ فما بالنا لا نراجعهم في فهم الصورة العامة للإسلام¡ وهي أقبل للاختلاف¡ والخلاف بها أليق¡ وأثرها علينا وعلى الدين أعظم¿ وما بالنا لا نُراجعهم في صورة السيرة النبوية كلها¡ ونُعيد تشكيل بعض وجوهها من جديدº ما دمنا قبلنا لأنفسنا أن نتعقّبهم في حوادثها الفردية¡ ومظاهرها الجزئية¿ لماذا تقبل طوائف المسلمين جميعا مراجعة مخالفيها¡ وترى من حقها أن تُراجع علماء المذاهب الأخرى في العقيدة والفقه¡ وتتراجع عن نقد صورة الإسلام كما نُقلت إليها¡ وتتخوّف من الدخول في هذا المهيع¿
سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام قضية كبرى¡ ونص مترامي الأطراف¡ وواقعة عظيمة¡ ومن الصعب أن يُصيب الناظر فيها روحها¡ ويقبض على جذرها¡ وهذا ما يجعلها قابلة من الأساس للأفهام المتعددة¡ والرؤى المختلفة¡ وما على مَنْ يُريد معرفة خلاف المشهور¡ ويطّلع على غير المعروف¡ إلا أن يُصيخ بسمعه إلى ما خالفه¡ ويُنصت بقلبه إليه¡ فتلك هي الطريقة الوحيدة في تصحيح المسار¡ وتجنيب الأمة تكرار أخطاء الأسلاف¡ ولنا مثل شاهد حاضر في العلم وتقدمه¡ فلولا أن العلماء رموا بأبصارهم إلى ما يُخالف المألوف¡ ويُضاد المعروف¡ ويشاكس المستقرº لما كان هذا التقدم الهائل الذي حيّر الأفهام¡ وحارت في تفسيره الألباب¿
عنوان المقال حديث مروي عنه عليه الصلاة والسلام¡ وفي روايته شكلان¡ الأول أنه قاله حاكيا قصة نبي من الأنبياء¡ "قال عبدالله: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه¡ وهو يمسح الدم عن وجهه¡ ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"¡ وتلك رواية البخاري. والثاني أنه قاله يوم أحد¡ "عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"¡ وهذه رواية ابن حبان في صحيحه.
حين أقرأ هذا الحديث¡ وأنظر فيه¡ يثور بين عينيّ هذا السؤال: لماذا يدعو الرسول عليه الصلاة والسلام لقومه¡ وهم الذين حاربوه¡ وأخرجوه من أحب البقاع إليه¡ وما تركوا سبيلا لأذيته إلا ركبوها¡ ولا طريقا لمحادّته إلا تسلّقوها¡ وكثير منا اليوم يدعو على الناس¡ ويسأل الله أن يذلهم¡ وهم لا يعرفون لغة الدين¡ وهي العربية¡ ولا يعرفون داعية قريبا منه عليه الصلاة والسلام في حسن خلقه وجمال خِلاله¿ أيصح لنا أن نقول: إن حسن الخلق¡ وطيب المعشر¡ ولين الكلام¡ مقصورة على العرب الذين عادوا الدعوة¡ وساموا صاحبها ما استطاعوا¡ وبذلوا جهودهم في إطفاء نورها¡ فهي لهم فقط¡ وليس لهؤلاء البشر الذين لا يعرفون العربية¡ ولا يمنعون أحدا من الدعوة في بلادهم¡ ولا يجد الإسلام من مقاومتهم شيئا يُذكر¡ نصيب منها¿ أتكون الأخلاق مطلوبة مع العدو المكاشح¡ والمنافق المبغض¡ وتُترك حين التعامل مع أهل هذا الزمان من أمم الشرق والغرب الذين حالهم مع الإسلام أفضل بكثير من حالة العرب في تلك الأزمان التي قال فيها الرسول عليه الصلاة والسلام ما قاله¿
يدعو الناس جميعا إلى حسن الخلق¡ ويأمر بعضهم بعضا به¡ ويرونه من السبل المؤدية إلى قبول الحق¡ والرضا به¡ وينكرون أشد النكير على داعية فجّ¡ وواعظ قليل الصبر¡ ويرون أعظم أسباب فشل الدعوة¡ ووقوفها عن تحقيق أهدافها¡ سوء الخلق وسخافة العريكة وبذاءة الكلام¡ فما لَهم يرون هذا في مخاطبة الأفراد¡ ودعوة الأشخاص¡ ويغفلون عنه في مخاطبة الأمم والحديث إليها وعنها¿ لماذا نرفق بفرد¡ وندعو إلى العطف عليه¡ وهو يسمعنا¡ ويعرف منطقنا¡ ويعيش بيننا¡ ويتلقّى ثقافتنا¡ ونرفع أيدينا بالدعوة على أقوام لا يسمعوننا¡ ولا يعرفون لغتنا¡ ولا يعيشون بيننا¡ ولا تلقّوا ثقافتنا¿!
من وقائع السيرة التي تبعث في روح قارئها كثيرا من المعاني¡ وتستنهض فيها الرحمة بالناس¡ والرفق بهم¡ والحدب عليهم¡ قصة يوم العقبة التي رواها البخاري ومسلم¡ وفيها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة¡ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال¡ فلم يجبني إلى ما أردت¡ فانطلقت وأنا مهموم على وجهي¡ فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب¡ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك¡ وما ردوا عليك¡ وقد بعث الله إليك ملك الجبالº لتأمره بما شئت فيهم¡ فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد. فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين¡ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
يأمل الرسول عليه الصلاة والسلام في قوم عادوه¡ وكذبوا دعوته¡ ويرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده¡ لا يشرك به شيئا¡ وبعضنا ييأس من قوم لم يسمعوا الدعوة¡ ولم يكذبوها¡ ولم يعرفوا لغتها¡ فأي فرق بين تفكير هؤلاء في المآلات وتفكير قدوتنا عليه الصلاة والسلام¿




إضغط هنا لقراءة المزيد...