لديّ ما يدفعني إلى الاعتقاد أن ثمة عوامل نفسية تتحكم في التفكير الفردي والجماعي في العمل الإنشائي في تأسيس منازلنا في بلادنا. تلك العوامل -ربما- أتت من ماض كنا نعيش فيه في الخيام في جزيرتنا العربية¡ تلك الخيمة التي لم يكن يشدّها إلى الثبات في الأرض سوى حبال قصيرة وأعمدة خشبية خفيفة الوزن متوسطة الطول.. ومع ذلك كانت تصمد في وجه عتوّ الرياح وصلافة الأنواء¡ نأوي إليها لتُمثل الملجأ¡ مناما واستطعاما وحتى الإنجاب¡ والاستضافة.
أقول إن إسرافنا وانغماسنا المُشاهد في استعمال الإسمنت والحديد في زمننا الحالي لم يكن إلا شعورا نفسيا¡ أو رغبة بالانتقام من عهد الخيمة والأعمدة الخشبية.. الإسراف المفرط جعلنا نحتاج إلى مصانع كثيرة للإسمنت والحديد¡ واستوردنا أجهزة الصب والخلط والتكسير والدعم الحديدي¡ وكأن رياحا مجهولة ستُهاجم مدننا وتطيّر مساكننا الأسرية.. وأرى في ذلك تبذيرا لا يمكن لأحد أن يتجاهله.
لو ظل معي هذا الاعتقاد لوصلتُ إلى حالة قناعة بنظرية المؤامرة¡ أي أن العالم بصناعاته الحديدية¡ ومكائن تصنيع الإسمنت والخلاطات والرافعات والكسارات¡ أطعمتنا فكرة التشفي من ماضي الصحراء وخيامها¡ وزيّنت لنا أن الحياة لا تكتمل إلا بمنازل مترفة¡ وأنها لا تكون مترفة حتى نصبّ في قواعدها أطنانا من الإسمنت وندعّمها بالحديد المبروم¡ وكأننا نُعد سدودا للاحتراس من طوفان محتمل¡ ودول تصنيع مواد البناء تشفط مداخيلنا التى حصلنا عليها من ثرواتنا المعدنية.. والمشكل أن الحديد طال حتى الأسوار الخارجية بزحارف وتصاميم تُكلف الكثير ولا لزوم لها البتة.
ويجد المالك أنه استعمل كمية حديد أكبر مما تحتاج فلة متوسطة لإيواء أسرة متوسطة الحال والعدد.. ويدفع المالك تكلفة زائدة للحديد¡ مع ارتفاع أسعاره¡ ومعظم المُلاك يجهلون أنواع الحديد ومواضع استعماله¡ فيدفع أثمانا لأشكال حديد لا يحتاج إلى مقاساته.
منظر البيوت من نافذة قطار يعبر بك أوروبا يوحي إليك أن الناس متفاهمون على الذوق العام.. منازل متساوية الارتفاع¡ حتى في علوّ المداخن.. لا ينتهي المنظر إلا ليُدخلك في منظر آخر. كلها -عندما سألتُ- لا يوجد أثر للحديد في إنشائها. هذا والبيئة تحمل ما تحمله من فيضانات وعواصف وديمومة أمطار لم يأخذوا من الماضي سوى بساطته.
ماعندهم تاريخ خيام يثأرون منه.




إضغط هنا لقراءة المزيد...