أواسط التسعينيات من القرن المنصرم¡ كان عالم دين سعودي من مدينة القطيف¡ يؤم المصلين في مسجد "الإمام الخوئي"¡ وسط حي "البستان".
المسجد الصغير صار حديث الناس¡ عندما اُقتطع جزء منه وخُصص لصلاة الجماعة للنساء¡ في مجتمع محافظ¡ رغم أن حائطاً من الإسمنت كان يفصل بين المصلين الذكور والإناث¡ ووجود مدخلين منفصلين¡ إلا أن المنابر "المحافظة" اشتعلت فيها الخطب المنددة والمستنكرة.
إمام الجماعة الشيخ حسين علي المصطفى¡ بقي محافظاً على هدوئه¡ غير مكترث للأصوات المعارضة¡ دون أن يغلق مصلى النساء¡ بل بدأت الأعداد تزداد يوماً بعد آخر رغم ضيق المكان. لتحذو حذوه العديد من المساجد بعدها بسنوات¡ ويكون بصبره تجاه الأصوات "الساخطة" استطاع أن يجتاز الاختبار الصعب.
المصطفى واصل في بحوثه عقب صلاة العشاء وخطب يوم الجمعة¡ في طرح أفكار تحديثية¡ تناقش الفكر الإسلامي عامة¡ والتراث الشيعي خاصة. متناولاً العديد من الموضوعات وفق منهجية بحثية¡ تقوم على المساءلة التاريخية والمنهجية¡ بعيداً عن التبجيل أو القداسة.
دراسة العلامة المصطفى في حوزتي "النجف" و"قم"¡ جعلت لديه ملكة علمية صارمة¡ صيرته واحداً من المختصين في "علم الرجال"¡ وهو ما مكنه من البحث في أسانيد الأحاديث والمتون بشكل علمي ومنهجي.
أذكر ذات مرة وقبل أزيد من عشر سنوات زرته في منزله¡ حيث أطلعني على مخطوطة لديه عن "احتقار المرأة" في الروايات المنسوبة إلى الرسول الكريم. وهو في مخطوطته هذه¡ ناقش سنداً ومتناً هذه النصوص¡ وأثبت بالدليل عدم صحتها.
في ذات المنزل¡ حيث مكتبته¡ كانت تدور النقاشات الحية¡ الحادة والجادة¡ والتي أخذت منحاً تصاعدياً في تغيراتها نحو فهم أكثر عقلانية وحداثة للدين¡ جعلته يختبر اجتراح تصور ديني جديد يتلاءم والإنسان الحديث واحتياجاته. ساعياً لأن يكون الفكر الديني والفقه خادمين للإنسان¡ لا العكس.
ذات مرة¡ وفي لقاء جمع العلامة المصطفى مع الأستاذ محمد العلي¡ دار نقاش معمق بين الاثنين¡ حول الدين والحرية.
كانت وجهة نظر المصطفى أن "المجتمع الحر هو أفضل بيئة يعيش فيها الفرد المؤمن"¡ وأذكر حينها أنه ضرب مثالاً قائلاً "إن دولاً مثل سويسرا أو النمسا¡ ذات نظام علماني¡ هي بيئة أكثر ملاءمة لحياة الإنسان المؤمن..".
هذه التجربة المحلية لباحث مختص في الشؤون الدينية¡ هي دليل على إمكانية التنوير من داخل البيئة "الملتزمة" دينياً¡ وأن هذا النوع من التنوير مهم¡ بل ضروري¡ رغم أنه يشتغل على التفاصيل الصغيرة¡ إلا أن له تأثيرا كبيرا وعميقا على عامة الناس.




إضغط هنا لقراءة المزيد...