في عرض خاطرة لرؤيته حول الأدب يحدد الأديب العالمي كارلوس ليسكانو بأن: "الأدب ليس نقطة وصول¡ إنه أرض واسعة مليئة بأماكن خفية لا يدخلها إلاّ من يملك شغفاً والتزاماً مطلقين. إنك تبلغ أرضاً لا هدفاً¡ فتبدأ أكثر المشاكل تعقيداً حين يبلغ المرء أرض الأدب¡ حيث يتقدم باجتهاد متدثراً بالوهم والبراءة نحو الأدب¡ فليس الأدب نقطةً بل مكان من السهل أن تضيع فيه".
تبدأ من هنا نقطة تحديد الوصول وغير الوصول¡ بين اثنين الأول قد يكون عالماً تمام العلم بما يملكه من المعرفة وما ينقصه¡ فيعترف بالأول ويتجاهل الثاني¡ وإن اعترف به كان إلى الضبابية أقرب وربما في قلبها. أما الثاني فهو أديب جاء إلى الأدب من مهنة أخرى¡ فقد يأتي من السياسة¡ أو الطب¡ أو المحاماة¡ أو الهندسة¡ ومع ذلك يجد في نفسه وفي وقته متسعاً للكتابة ليس تلك الكتابة الحريصة على الديباجة والأسلوب والعبارة المترفة البرَّاقة الرنَّانة¡ بل تأتي كتابته مفعمةً بصور مستمدة من تجربة حية تضخ في الأدب دماً جديداً غير معهود عند الأول.
فالسياسي الأديب ذو الأفق الواسع الطموح والعقل الذي يفكك في المفاهيم ويركب في لحظة واحدة¡ حيث يكتب ما قد يرفضه الأديب المتخصص المتقعر للوهلة الأولى¡ لأن الحرص عنده ليس على الأداء وكيفيته¡ ولكنَّ حرصه يَنْصَبّ على الفكرة ومضمونها في الدرجة الأولى ومن ثم نقلها بجلاء ووضوح على طريقة السهل الممتنع¡ فهو يكتب كما يتحدث وسار في الساح بعطاءات شدت المتلقين¡ ومثله الطبيب والمحامي حيث شأنهما سأن السياسي في تطعيم الأدب بما يدخله في واقع الحياة¡ ولكن لب الجوهر هو أن ممارستهما تبرز في التعامل مع الواقع لا في الظن والحدس¡ فالطبيب الذي يعرف عن قرب شقاء الإنسان¡ ويعرف عن قرب لحظات ضعفه وسقوطه بتعامله مع المرضى يستطيع إذا كان ذو نفس شفافة -وهو غالباً كذلك- أن يكتب عن الإنسان ما لا يستطيع أن يكتبه عنه الأديب البحت المحصور بين المصطلحات وركام الكلمات¡ فالطبيب قادر على إقامة تلك الصلة المفقودة بين الأدب والواقع¡ وهي صلة تكاد تنقطع نهائياً لولا هؤلاء الغرباء أصلاً عن المدار الأدبي ولكن الأقرب إلى روح هذا المدار ومقاصده.
المحامي ومن في سلك القضاء بحكم المهنة كفيصل بين الحق والباطل¡ والذي تتكرر لديه القضايا ومشاهد الحياة بكل وضوح فهو جدير بالحديث عن الحياة ومتناقضاتها حديث خبرة ومعاينة لا حديث تقليد ومحاكاة¡ ولذلك كان الأدب الذي يكتب على أيدي رجال القانون والطب والهندسة والسياسة¡ وسائر المهن اللصيقة بالإنسان له نكهته الحية¡ فهو بعيد عن التنظير حيث يجيء في كلمات هادفة يحفّها الصدق¡ في حين تأتي آلاف العبارات عند غيرهم لا طعم لها ولا رائحة¡ والفارق يجيء تبعاً للرَّكائز والمؤثِّرات التي بنى عليه الكاتب نفسه وسار على نهج سليم بين الكلمات والصُّور الحسّية والمرئية في حياته وفي عمق الوجدان.




إضغط هنا لقراءة المزيد...