الاستقالة في الدول الديمقراطية جزء من ثقافة تحمّل المسؤولية¡ وهي ثقافة ليست فقط غائبة في كثير من المجتمعات¡ بل تقابل بالاستهجان والسخرية.. وثقافة السلطة التي يمنحها المركز الوظيفي الرفيع لا تعني لكثير من أولئك المسؤولين سوى القوة والنفوذ..
للمنصب الكبير كلفته¡ كما له وهج وحضور ومكاسب. وكما للإنجاز أهميته الكبرى في صناعة المجد وتوهج الحضور وشعبية القيادة.. فللأخطاء أيضا كلفتها وثمنها.. كما الخطايا وصمة عار تلاحق مرتكبيها إلى قبورهم.
بين عالمين ستجد الفارق الكبير والسلوك المتباين والمعالجة المختلفة¡ التي إما أن تتوسم خطى الاعتذار بما فيها الاستقالة¡ كاعتراف بتحمل المسؤولية والاستعداد لدفع كلفة التورط في صناعة الخلل أو ممارسة الفساد أو المشاركة فيه.. بما فيها الخضوع للمساءلة والمحاكمة.. أو أن تحتمي بسلطة الأقوى حيث تتداعى المواقف الأخلاقية حد الانكشاف.. وحينها لن تلقي بالاً للانكشاف على الفساد تورطا أو تواطؤا.. أو تواضع الكفاءة وسوء الإدارة.
تأتي الاستقالة المرتبطة بخلل الأداء أو التورط في الفساد¡ حيث لا تعني سوى الاعتراف بالذنب والاستعداد لتحمل المسؤولية.. كما أن هناك نوعا آخر من الاستقالة قد تعني موقفا من المسؤول عندما يصبح في واقع الأمر غير قادر على ممارسة دوره أو مسؤوليته للعديد من الأسباب¡ ربما كان من أبرزها تضارب الصلاحيات أو التدخل في الأداء أو محاولة استغلال منصبه لتمرير عمليات لا يراها سوى جزء من الخلل أو تمكين للفساد أو اختلاف في رؤية المعالجة للقضايا التي تدخل ضمن إطار مسؤوليته وحدود اختصاصاته.
إذن ليست كل استقالة اعترافا بالذنب أو إدانة مبكرة للمسؤول.. إلا أن السمة الأكثر وضوحا أنها تظل اعترافا بالمسؤولية عن الخلل سواء كان خللا مرتبطا بقرارات تستمد قوتها من صلاحياته أو مرتبطة بممارسات تخل بالأمانة وتنتهك القانون والنظام.
وفي كل يوم نطالع خبرا يأتي من هناك¡ حيث تترسخ ثقافة الاستقالة باعتبارها جزءا من مكون ثقافي أخلاقي ارتبط بالمسؤولية ارتباطا وثيقا.. وفي مجتمعات يحسب فيها للرأي العام حسابا¡ وفي بيئات تملك قوة الكشف عبر وسائل كالبرلمان والصحافة والإعلام.. لتلاحق الخلل حد كشف الالتباسات.
نتعرض كل يوم تقريبا لأخبار عالم لا يكف عن كشف الفساد والممارسات المخلة حد تقديم المسؤول أو المتورط استقالته.. حتى لو كان الأمر يدور حول قضايا سهلة في عرف عالم لم يصحُ بعد على مكتسبات هذه الثقافة التي لا يعرف منها سوى النزر اليسير وتحت ظروف تحدد السلطة توقيتها وطريقة إعلانها.
نطالع بشكل مستمر أخبار استقالات مسؤولين في الغرب والشرق¡ فمن وزيرة أوروبية تستقيل لأنها تستخدم كوبونات الوقود المخصصة لمكتبها لتعبئة سيارتها الخاصة¡ أو مسؤول ياباني رفيع استقال بعد أن اُكتشف أنه يركب القطار مجانا.. أو وزير عمل سنغافوري يستقيل من منصبه لأنه حصل على كوبونات مجانية لقضاء ليلتين في أحد المنتجعات السياحية!! أو وزير كوري يغادر منصبه بعد أن كشفت لجنة مراجعة حكومية أن الوزارة منحته معاملة تفضيلية لابنته بتعيينها في وظيفة عامة¡ أو مسؤولين فرنسيين دفعتهما الصحافة هناك إلى تقديم استقالتهما إثر انتقادات لهما بإساءة استخدام المال العام.
أما استقالات الموقف¡ فهي أكثر من أن تعد في الدول والمجتمعات التي تجذرت فيها قيم وثقافة الاستقالة على نحو تجعلها جزءا من ثقافة مجتمع لا يمكن له أن يتعامل مع الأخطاء أو الانتهاكات على طريقة عفا الله عما سلف.. وكثيرا ما تحدث عندما يجد المسؤول نفسه في موقع يحد من صلاحياته وقدراته على تنفيذ مشروعه أو برنامجه.. وهي تعبر عن موقف قيمي كلما علا شأنه أصبح له وقعه في سلم الثقة التي تمنحها السلطة¡ التي ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه عندما يبدأ الخلل ينال في تركيبتها بالاستقالة الطوعية أو الإقالة القسرية.
الاستقالة في الدول الديمقراطية جزء من ثقافة تحمل المسؤولية¡ وهي ثقافة ليست فقط غائبة في كثير من المجتمعات¡ بل تقابل بالاستهجان والسخرية.. وثقافة السلطة التي يمنحها المركز الوظيفي الرفيع لا تعني لكثير من أولئك المسؤولين سوى القوة والنفوذ.. وضمن تراتبية القيم تظل تلك الفرصة هي الأكثر أهمية مهما بذل في سبيلها¡ ناهيك عن توظيفها في خدمة العشيرة أو العائلة أو طبقة المتنفذين والمصالح التبادلية الخاصة.. أما الالتزام الأخلاقي والقيمي تجاه الوظيفة/ المسؤولية فغالبا ما ينام بعيدا عن عقل وقلب وعين ذلك المسؤول!!
ولأن المسألة الأخلاقية وحدها ليست ضمانة -على أهميتها- في تعزيز ثقافة تحمل المسؤولية من خلال الاعتراف بالتقصير أو مخالفة القانون حد الاستقالة.. فثمة علاقات لا يمكن تجاهلها تجعل من الاستقالة الوسيلة المناسبة لمواجهة الرأي العام في بلدان تحسب حسابا شديدا لهذا الرأي.. لأن مبدأ الاعتراف بالأخطاء المهنية أو التقصير الوظيفي أو الإخلال بالواجبات الملقاة على عاتق المسؤول الذي يضطلع بتدبير الشأن العام يعتبر لديهم مؤشرا قويا على مدى النضج السياسي وعلى قوة ومتانة البناء الديمقراطي.. ولا يعني هذا أن المبدأ الأخلاقي والقيمي ليس له دور¡ ولكن طبيعة النظام السياسي وضعت الرأي العام في عين المشهد طوال عملية التنافس عبر الديمقراطية وأدواتها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...