عندما بدأت أسعار النفط تتراجع¡ ظهرت حالة من التذمر والقلق على المستقبل¡ لكن لم يصاحب هذه الحالة أي خطوة جادة لتغيير الافكار المرتبطة بالاستهلاك والإنتاج على مستوى الفرد والمجتمع¡ أي أنه لم نفكر فعلا أننا مصدر الوفرة وليس ما نملكه فقط..
كثير من الناس يفكرون في ما لا يملكون وينسون ما يملكون¡ وهذا يقودهم إلى "فكر الندرة" التي تجعل الانسان أسير ما لا يملك¡ رغم أنه في حقيقة الأمر لا يضمن أن يحصل عليه. قلق الناس من تناقص دخلهم وشعورهم بالفاقة بدون مبرر¡ يجعلهم يفكرون في ما سيفقدونه دون أن يفكرو في ما كسبوه. لقد أصبحوا أسرى لهذه الفكرة السوداوية التي باتت تزيد من الضغود النفسية على الناس¡ وتفقدهم الأمل في المستقبل مع أنه يفترض أنهم هم الذين يصنعون "الوفرة"¡ لا أن ينتظروا من يصنعها لهم. موضوع الإنتاج هو لب الموضوع¡ أن تكون منتجا أو مستهلكا¡ لأن من يستهلك سيكون حبيس "الندرة" ومن ينتج سيكون صانعا للوفرة¡ وغالبا لا يصنعونها لأنفسهم فقط بل لكل مجتمعهم. يركز "وين دبليو. داير" في كتابه "سوف تراه عندما تؤمن به" على أن الانسان ينظر لما تحتويه الثمرة من بذور ويستطيع عدها¡ لكنه لا يرى كم من الثمار يمكن أن تنتجه البذرة الواحدة. وهنا بيت القصيد¡ لأنه يفترض أن نتجاوز الكم المادي المحسوس¡ إلى المنتج غير المحدود وغير المنظور وهذا غالبا ما يكمن داخل نفوسنا فنحن البذرة التي يجب أن تنتج ثمارا غير محدودة من أجل المستقبل¡ والأجيال القادمة ولا يجب علينا أن نفكر فقط في الثمرة ونعد ما بها من بذور.
مجتمعاتنا الخليجية بشكل عام تعودت على أكل الثمرة دون أن تفكر في غرس البذور لإنتاج عدد لا نهائي من الثمار¡ والشعور بالاحباط الذي تولد لدى البعض في الآونة الأخيرة هو نتيجة لهذه الثقافة المتراكمة خلال العقود الماضية التي حولتنا من شعب "يزرع" إلى شعب فقط همه أن "يأكل"¡ من أناس يتعاملون مع المتاح¡ ويحاولون أن يوسعوه إلى مجموعة مستسلمة لما تملكه¡ ولا تريد أن تغير من ثقافتها وأسلوبها في العيش وهي ترى ما تملكه يتآكل. لن أخوض في الأسباب التي جعلت من مجتمعاتنا مستسلمة ولا تقبل التحدي¡ ولا تريد أن تعمل من أجل تغيير الواقع¡ لأن لهذا أسباب ارتبطت بالحلول السهلة التي نشأت مع ثقافة النفط¡ وظهور نمط حياة يعتمد على "الدخل السهل" دون تعب.
المشكلة تكمن في عدم تقبل أي واقع آخر¡ أي أنه عندما بدأت أسعار النفط تتراجع¡ ظهرت حالة من التذمر والقلق على المستقبل¡ لكن لم يصاحب هذه الحالة أي خطوة جادة لتغيير الافكار المرتبطة بالاستهلاك والإنتاج على مستوى الفرد والمجتمع¡ أي أنه لم نفكر فعلا أننا مصدر الوفرة وليس ما نملكه فقط لأنه محدود فنحن البذور التي يمكن أن تنتج بلا حدود¡ وما نملكه مهما كثر فإنه سينتهي في يوم. كيف يمكن أن نحدث هذا التغيير عل المستوى الذهني الفردي والاجتماعي¡ وننقل الناس من التفكير في الحدود الضيقة إلى الأفق الواسع¡ وهو ما سينقذنا من ذهنية الندرة التي حتما ستزيدنا فقرا¡ لأن ما نفكر فيه ونؤمن به سوف يتمدد¡ فإذا كنا حبيسي الندرة فإنها ستمدد¡ وإذا كنا نؤمن بأننا من يصنع الوفرة فسيتمدد هذا الإيمان ويصبح حقيقة.
لا أريد أن أكون مفرطا في التنظير أو في التفاؤل¡ لكني أرى أن الأيام الصعبة هي التي تصنع الأفكار¡ وتجعل الناس أكثر قدرة على الابتكار. ورغم أننا لم نصل بعد إلى ما يمكن أن أطلق عليه "أيام صعبة"¡ إلا أنه من الضروري البدء من الآن في تغيير ثقافتنا الإنتاجية بشكل كامل¡ وبدلا من أن ننتظر كيف نأخذ ومن سيعطينا¡ يجب أن نكون نحن من يبادر بالانتاج ونكون نحن من يقدم ويعطي. أذكر أنني قرأت دراسة في منتصف التسعينيات أن 10% فقط من الشعب البريطاني هو الذي ينفق على باقي 90% (بينهم الأطفال وكبار السن بالطبع). هذا هو تأثير ثقافة الوفرة¡ فهو شيء محدود ومجموعة بسيطة من المجتمع ممكن أن تقود هذه الثقافة وتصنع "الرفاه الاقتصادي" عندما تكتشف داخلها المقدرة على الانتاج.




إضغط هنا لقراءة المزيد...