لا يختلف النص المكتوب من حيث الجوهر عن كل أعيان المرئيات الحاملة للدلالات¡ والمنتظمة في أساس التوازن¡ ذلك أن كل مرئيات الوجود تنتظم في سياق للمكان والزمان¡ ويعبر السياق المكاني عن ثابت الأشياء في وجودها المرئي والملموس¡ فيما يعبر السياق الزماني عن انزياحات الثابت الجامد في المدى المفتوح¡ فالزمان ليس في نهاية المطاف سوى التُّرجمان الناجز لمكان انفلت من عقال الأسر.. أي من عقال الجمود والثبات.
هذا القانون الطبيعي ينطبق على النص الإبداعي المكتوب¡ ولهذا قيل إن هناك زمنا بيولوجيا وزمنا للإبداع¡ وقيل أيضاً إن هناك نصا مكتوبا حمَّالا لتعددية المعاني¡ وآخر مكتوبا ومُشعْرنا.. بمعنى أنه نصٌ مُدوزن بموسيقاه الظاهرة والمستترة¡ ومن هنا نلمح التناص بين النصوص ذات الروافد المتنوعة بوصفها حالة "كُليانية" تطال كل نوع¡ فالمكتوب مرسوم بالضرورة¡ والمرسوم مُشبَّعٌ بالغنائية اللونية البصرية¡ والمسموع موسيقياً قد يتقاطع مع الكلمات¡ وهكذا..
وهنالك أيضاً النص المُترع بالغنائية الوصفية البصرية¡ بحيث ترتسم الصورة الناطقة أمام القارئ¡ ومن الأمثلة الدالة في هذا الباب قول البوصيري:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة
تمشي إليه على ساقٍ بل قدمِ
وقول عنترة:
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المُتبسِّمِ
وقول أبي تمام:
غادرتَ فيها بهيم الليل وهو ضُحىً
يشلُّه وسطها صبحٌ من اللهبِ
وفي كل هذه الأحوال يبدو النص الإبداعي متخطياً لذاته الدلالية القاموسية¡ نحو فضاءات تتجاوز المعنى.
منذ زمن بعيد فرَّق العرب بين اللغة واللسان والكلام¡ وتوافقوا على أن اللغة صفة عامة للمنطوق من الكلام¡ واللسان بيان خاص يتعلق بالمخرجات الصوتية والدلالية¡ والكلام إبحار في الصرف والتصريف¡ وهكذا نشأت مدارس في اللغة والكلام واللسان¡ وفاضت تلك الحقائق في تعددها¡ فأصبحت مباحث ومدارس تعيد إنتاج تمدداتها في كل الثقافات الإنسانية¡ فتاهت في دروب الاتصالات غير اللفظية¡ وعلوم الإشارة والهيئة¡ فتيقَّن العارفون بأن الكلام واللسان ليسا مجرد حرف وصوت¡ بل ما يتجاوز ذلك¡ وأن الانتقال من دائرة الحرف البسيط إلى الكلمة المركبة أشبه ما يكون بالانتقال من الذرة للجزيء.. تماماً كالعناصر المتكونة من عديد الذرات لتمنحنا ماءً أو ملحاً أو ذهباً.
هذا السياق المركّب لماهية النص يجعلنا نقترب من تخوم التنوّع اللا متناهي في القيم التعبيرية والدلالية الناجمة عن النص المكتوب¡ بل التفاعلية الأُفقية بين هذا النص وكل احتمالات الوجودين المرئي والغائب¡ مما يجعل التناص فصوصاً لنصوص متنوعة.. تبدو في نهاية المطاف كما لو أنها نص واحد.. فتأمَّل عزيزي القارئ.




إضغط هنا لقراءة المزيد...