في الطريق لسفارة المملكة وفي ساحة النجمة بباريس تتزاحم السيارات ولا يعبر إلا الأكثر جرأة¡ فجأة تقترب تلك السيارة ويفاجئنا منها هذا الغناء يصدح¡
«كل شيء حولي يذكرني بشي¡
حتى صوتي وضحكتي لك فيها شي¡
لو تغيب الدنيا عمرك ماتغيب¡
شوف حالي من تطري علي¡
المشاعر في غيابك ذاب فيها ألف صوت..»
على غير توقع ينبعث صوت محمد عبده في البرد الصاعق ويفجر في صدورنا دفئا¡ وتتحرر كلمات الشاعر نصري حسين الحضرمي فلا تسمع فيها نداءً لحبيب بقدر ما هي نداء لوطن¡ ويذوب داخلك ألف صوت¡ وتتدفق في حواسك مذاقات الجزيرة¡ أصوات الأهل¡ وبيوت الطفولة¡ لا يعود البرد غريباً حين نسترجع أول مرة قابلنا فيها الثلج¡ في أكوام البَرَد نجرفها بالمعاول كل صباح من على باب حجرة جدتي ببيتنا بالطائف على جبال السراة¡ نفك أسر تلك الجدة التي تستقبلنا باسمة على سجادتها بسكينة لم ولن يقابلك مثل عمقها حتى في أكثر الزهاد¡ تلمح مشطها العاج يغوص بجدائلها الفضية¡ يراجعك صدى حكاياها التي لم تكف تلاحق الأسفار في البلاد الغريبة وتغرس فيك جذوة الرحيل¡ تدرك لحظتها أنك مولود للسفر وللشوق لأرض هي كل الأرض¡ أرض انعجن منها لحمك وصبغ فلورايدها أسنانك¡ بلد تلبسك من الداخل والخارج فلا يعود منك خارج.
قادتنا الحاجة للأوراق التعريفية لقسم الرعايا بسفارة المملكة¡ وهناك أخذت تتلاحق تداعيات هذا الجارف الذي يسمونه الوطنية¡ بدءًا بالحارس والذي يسأل متفحصاً ومشككاً:
«سعودية¿» وتوشك أن تقول «طبعاً.» وتسابقك مشاعر لم يخطر لك وجودها¡ شيء من فخر أو هو امتنان أو انتماء عميق¡ وتلوح بجواز سفرك الأخضر¡ الذي تنفتح له على الفور الأبواب¡ وتجد نفسك داخل معقل لوطن¡ وتتداعى شارات الحماية.
«نصيحتي ألا تتنقلي ببطاقة هويتك¡ فقدانها يكلف الكثير». تأتي النصيحة الأخوية ابتداءً بالحارس الذي يمنحك مفتاح خزنة تودع بها هاتفك غير المسموح بدخوله للسفارة.
وفي الدور الخامس تقدم جوازك كأي مواطن مجهول¡ وللحال يفاجئك الترحيب بك بحفاوة¡ ومن قبل نائب رئيس قسم شؤون السعوديين الأستاذ الشهري¡ والذي وبمجرد أن لمح أسمك قام بوضعك في سياقك الثقافي:
«مرحباً أستاذة».
وتتلو رائحة الوطن في القهوة العربية بالهيل¡ وبالنفوس السمحة التي تحتويك بكامل طلباتك¡ أينما وليت وجهك جاء صوت يرحب¡ وتنهبك مشاعر عميقة متداخلة¡ تكتشف داخلك هذا الحبل السُرِّي والذيل يمكن فصمه¡ تغادر بالسيفين والنخلة وشهادة ألا إله إلا الله على المظروف¡ وذهنك مشغول بهذه الوطنية التي تتغنى بها القصائد¡ هذا المفهوم الذي يتحول تدريجياً للتجريد طالما أنت مشغول بفرديتك المكتسبة¡ تكاد تنسى السحر العجيب الذي للوطنية منساقاً في الغربة ومعتقداً بأنك ابن للكرة الأرضية على إطلاقها¡ حتى تأتي اللحظة التي تتلقى فيها وعلى غير توقع النداء¡ في صورة أغنية أو حبة تمر أو نفحة هيل¡ عندها يهدر هذا النائم مغادراً تجريده¡ متحولاً لعملاق يحملك ولا يحط بك.




إضغط هنا لقراءة المزيد...