لا نستطيع أن نجزم إن حقبة التدوين في تاريخنا, قد التزمت بأقصى أدوات المنهجية العلمية, وأساليب التوثيق المتقدمة, التي تحفظ الحادثة التاريخية وتحميها من الوضَّاع والمدلسين, لاسيما مع تزامن مطالع التدوين في تاريخنا الإسلامي, مع الأحداث والفتن السياسية الكبرى, ومشاركة العديد من رواة السير والمغازي, في نسج خيوطها, وتضمينها الكثير من الأخبار المشكوك في صحتها, عند تعريضها على مناهج النقد في عصرنا الحديث.
ولعل هذا يبرر¡ ويفسر لنا تشابهاً يقترب من التطابق, بين تفاصيل حياة كل من الإمبراطور الروماني الطاغية نيرون الذي اشتهر عنه بأنه, أشعل النيران في روما, وأخذ يتأملها وهي تترمد¡ بينما هو على الشرفة يعزف قيثارته .
وشخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي الغرائبية الدموية.
فكل من نيرون والحاكم بأمر الله, وصل لهما صولجان الحكم في سن باكرة من طفولتهما, بحيث ظلا تحت وصاية أمهات قويات البداية, قبل انتقال الوصاية لمعلميهما.
وكان الوصي على نيرون الفيلسوف الروماني الشهير (سينكيا), وعلى الحاكم بأمر الله معلمه الصقلبي برجوان¡ الذي كان رجل حكم موسوعياً ومقرباً من بيت الحكم الفاطمي.
وكلاهما قتلا معلميهما غدراً بعد أن وصلا للعرش, وخضع لهما السلطان, وكلاهما مارس من الأفعال التي وصلت إلى أقصى حدود البطش, والمجون والعربدة, لنصل في النهاية أن كليهما قام بإحراق عاصمة حكمه, فنيرون أحرق روما عام 64 للميلاد, بمزاعم إنه يريد إعادة بنائها.
بينما أحرق الحاكم بأمر الله الفسطاط عام 402 للهجرة¡ عندما سخر أهلها من الحاكم , فصنعوا دمية على هيئة امرأة بالحجم الطبيعي, وجعلوا في يدها ورقة بها سباب فاحش في الخليفة, ووضعوا الدمية في طريق يمر به يومياً, فاستشاط غضبا وأمر عبيده عندها أن يحرقوا مدينة الفسطاط, ويبطشوا بأهلها .
هذا التطابق بين السيرتين¡ يجعلنا نتساءل إلى أي مدى أسهم المخيال الشعبي في كتابة العديد من فصول حياة هذين الحاكمين¡ المطوقين بالغموض والإشاعات ¿ وأيهما تأثرت سيرته بالآخر¿
كتابة التاريخ تعتمد عدة مناهج, ومن أبرزها النظرية الترابطية التكاملية, التي تعطي للحادثة تماسكها المنطقي الداخلي, والصلة الوثيقة بين التدوين والظواهر الاجتماعية المعاصرة له.
ولكن بغيابها عن تلك المرحلة التدوينية¡ إلى أي مدى نستطيع أن نثق بكثير من المرويات والأخبار التي تصادفنا في كتب التاريخ ¿
وإلى أي مدى نحن بحاجة إلى إعادة قراءة للتاريخ ¿¿ قراءة بأدوات علمية مستقلة, تزيل عنه الكثير مما داخله, وأصبح جزءاً من نسيجه¡ ومصدرا للكثير من الخلافات الطائفية¡ والمذهبية التي تضرب جذورها عميقا في صفحات التاريخ¿
تاريخ أسهم في كثير من الأحيان المخيال الشعبي والصراع على السلطة, في كتابة سطوره.




إضغط هنا لقراءة المزيد...