للروايات أيضا أقدار¡ فبعضها ينجح وبعضها لا ينجح رغم جودته¡ وبعضها ينتشر دون ضجيج¡ والبعض الآخر يولد في الضجيج ويعيش فيه¡ فيما القليل يحاكم ويلاحق ويمنع من نعمة بلوغ شواطئ الأمان فيبتر حظه مع حبله السري لحظة ولادته¡ ويذكر أنّ البعض الآخر يبعث بقدرة القادر من المقابر حيا¡ بعد عشرات وأحيانا مئات السنين من موت مؤلفيها.
أمّا حظ روايات الزيواني فلا أعرف تحديدا كيف يكون¡ لكن من غرابة أقدارها أني لا أقرأها إلا فوق الغيوم¡ على ارتفاع آلاف الأميال فوق سطح الأرض.
فقد شاءت الصدف أن أقرأ له روايتين في الأجواء. قرأت روايته "مملكة الزيوان" وأنا عائدة من الجزائر إلى بيروت¡ حين أهدانيها في اللحظات الأخيرة قبل مغادرتي فندق الشيراتون بالعاصمة¡ والذي استضاف عددا كبيرا من الكتاب والشعراء على هامش الصالون الدولي للكتاب. كان حديثنا المقتضب ذا نكهة لا توصف وهو يعرّفني بنفسه كأكاديمي يشغل منصب أستاذ في جامعة أدرار في عمق الصحراء الجزائرية ويختصر محتوى روايته بإيجاز بليغ.
حين حلّقت بي الطائرة¡ فتحت الرواية ودخلت المملكة السّاحرة التي أسس لها الزيواني الأسمر بمتانة وإتقان¡ وزيّنها بكل عناصر الإدهاش بدءا باللغة الفائقة الجمال¡ إلى الشخصيات البديعة التي تسكن الصحاري ونحن أهل الشمال نجهلها تماما.
خلال أربع ساعات من الطيران قرأت نصف الرواية ونبتت لي أجنحة فأصبح من الصعب أن أحط على الأرض. حلّقت في أجوائها حتى أنهيتها فجر اليوم التالي وعشت تفاصيل شغف عجيب شدني إليها كلما تقدمت نحو النهاية. كان هذا قبل سنتين¡ وقد شاءت الأقدار أن أعيش شيئا مشابها مع روايته الثانية "كاماراد" (والكلمة تعني بالفرنسية الرّفيق) بحثت عنها حين زرت الجزائر مؤخرا¡ ولأني لم أوفق في إيجادها¡ أوصيت صديقي الكاتب نور الدين لعراجي ليحضرها لي¡ ولم يتمكن من فعل ذلك إلا قبل أن تطير طائرتي نحو القاهرة بنصف ساعة¡ ركض وهو يحمل الرواية ويتوسل رجال الأمن والجمارك لإيصال الرواية لي¡ سلّمها لي أمام البوابة رقم 25 قبل صعودي الطائرة وهو يتصبب عرقا وقد انقطعت أنفاسه.. سامحني الله على فعلتي هذه..!
الغرابة أتت فيما بعد حين تكرر السيناريو نفسه¡ ففتحت عوالم الزيواني وأنا فوق الغيم¡ وكأن تلك العوالم لا يمكن بلوغها إلا بأجنحة¡ ولا يمكن إدراكها إلاّ حين تعلو الذات القارئة عن قفار تبتلعنا بخوائها¡ وتسمو بالنّفس عاليا حيث تكتمل الرؤى من فوق فتتوضّح أهوالنا ومآزقنا ودروب متاهة عيشنا.
وكلّما اقشعرّ بدني إثر قراءتي لتوصيفاته البارعة وفضاءاته الروائية البديعة أدعو له بمزيد من النجاح والتألق متأمّلة أن يقبل دعائي وأنا بين السماء والأرض.
رحلة الحيف والضياع في روايته "كاماراد" تنطلق بنا من النّيجر وهو فضاء مكاني منسي لدى الكتاب باللغة العربية¡ لكن الزيواني أبلج بقلمه على تلك الرقعة المنزلقة من خارطة العالم¡ ومن هناك جعلنا نعيش رحلة الهروب من وهج الشمس إلى ضفاف الجنّة الأوروبية..
هل يمكنكم تخيل نهاية تلك الرحلة¿
وحدها الرواية تجيب¡ في 363 صفحة¡ وبنهاية لا يمكن توقعها¡ أبدع مؤلفها "الصِّدِّيق حاج أحمد" في نسج تفاصيلهاº فقط للتذكير الرواية صادرة عن دار فضاءات بالأردن.




إضغط هنا لقراءة المزيد...