اشتكى من انشغال الناس عن بعضهم في زمننا الجاري.. وتحدث عن توادهم وتكافلهم حينما كانت بلادنا فقيرة في زمن كان من لا يجدون ما يقتاتون منه كثيرين.. ورغم ذلك إلا أن إحساس الناس ببعضهم يفوق الوصف¡ ليؤكّد أنهم من شدة اهتمامهم بالفقير والمحتاج لا يظهرون له كي لا يحرجونه.
كان محدثي وهو العجوز الذي بدا لي أنه تجاوز الثمانين حولاً¡ قد أراد الغوص أكثر في أعماق الموضوع ليعدل من وضعه إلى نصف جلوس اعتمد فيها على اتكاءة على جانبه الأيمن¡ ليتابع حديثه: كان أهل البلدة أو الحي يضعون الطعام أمام منزل المحتاج¡ دون أن يقرعوا الباب أو حتى يعلم من وضع هذا الطعام حفاظاً على ماء وجه المحتاج ومن فرط تكافل اجتماعي قل أن تجده في زماننا الجاري.
بدا أن الحديث عن التكافل قد استفزه كثيراً في إطار معمعة التفاخر بالهبات والكرم وحتى إعلان الصدقات التي باتت ظاهرة قبيحة من البعض في مجتمعنا.. ليواصل حديثه قائلاً: يعلم الله أن ما سأقوله لك هو الصدق ولا شيء غيره.. حيث كنت قبل نحو 60 عاماً عند صاحب دكان في مدينة الزلفي وكنت شاباً يافعاً أرسلني عمي إليه كي يكيل لي وبكميات قليلة بعض القهوة وما تيسر من أطعمة ونباتات طبية ناشفة كي تعين رحلتنا أنا وعمي وآخرين إلى الأحساء¡ وفي خضم انتظار أن يحضر ابنه الطلبات التي قال إنها جاهزة في منزله وسط توقعه أن عمي سيأتي إلى منزله لا إلى الدكان.
أكمل حديثه قائلاً: في معمعة الانتظار كانت نساء يحضرن بكامل حجابهن إلى صاحب المحل ويعطي هذه كيساً والأخرى كذلك بدون أي حديث أو حتى إشارة¡ وأشاهده لا يقبض منهن مالاً أو يسجل في دفترة.. فسألته "عندك شيء ببلاش" وبدا أنني استفزيته ليرد هذا ليس من جيبي وثمنه مدفوع لي.. لكن ليس ممن شاهدتهن.. ولكن كيف¿ كان هذا سؤالي.. فرد: رجّال راعي خير يتصدق من ماله على المحتاجين الذين يأتون مثل هذا اليوم من كل شهر¡ ولا يريد أن يعرفه أحد¡ حي أو ميت¡ وهذا شرطه علي.
إنه التكافل الاجتماعي الحقيقي الذي افتقدناه في خضم تسارع الحياة المدنية وتلاطمها.. تكافل يتم بمنتهى الذوق¡ وبكل الروعة والقيم الأخلاقية الإنسانية.. يحافظ على هيبة واحترام المحتاج ويعلي شأن المتصدق عندالله سبحانه وتعالى¡ ولا ننسى الوسيط الذي هو شريك في الخير وأساس الستر بأسلوب نقول عنه في زماننا الجاري أنه قمة الذوق فهو لم يسأل عن اسمها ولماذا تريد ذلك¿.. مقابل أن المحتاجات لا يطلبن أكثر مما خصص لهن.. وبصمت يستلمن ويرحلن.. لا يخشين نظرات التعالي ولا يجدن أي منة أو ازدراء.
المهم في القول: إن زمننا الجميل كان عنواناً للتكافل الاجتماعي رغم فقره وقلة إمكاناته.. فهل أعيانا زماننا الجاري حتى أصبحنا نبلغ "والعياذ بالله" حد الكفر بالنعمة¡ ولا حول ولا قوة إلا بالله.




إضغط هنا لقراءة المزيد...