ترومان مواطن أميركي يملك عائلة سعيدة وحياة تناسب معظم الناس.. لم يغادر بلدته أبدا كونه يخشى السفر بالطائرة ويصاب بالهلع من الطرقات الطويلة.. حين كان طفلا ألح على والده للذهاب في نزهة بحرية انتهت بعقدة نفسية.. فبمجرد ابتعادهم بمترين¡ تشكلت عاصفة قوية قلبت المركب وتسببت في غرق والده¡ فنشأ معتقدا أنه سبب وفاته..
ورغم ملاحظته لبعض الأشياء الغريبة في مدينته (مثل نزول المطر فوق رأسه فقط¡ وتصرف بعض الأشخاص بطريقة مكررة¡ وتعمد وكالة السفر تثبيطه عن أي رحلة) كان دائما يعيش حياة سعيدة مثل أي مواطن يملك كلبا وطفلين وزوجة جميلة..
ما لا يعرفه ترومان أنه كان يعيش طوال حياته داخل أستديو كبير.. كبير جدا لدرجة تتيح للمخرج التحكم بالأحوال الجوية¡ بما في ذلك صنع عاصفة قوية على بعد مترين من الشاطئ.. كل ما فيه كان مزيفا¡ الشاطئ والقمر والمطر والعواصف وغروب الشمس.. حتى زوجته وجيرانه وزملاؤه في العمل (والأشخاص الذين يتكرر مرورهم) مجرد ممثلين يأخذون أجرا على هذه الأدوار.. الوحيد الذي لا يعلم بالخدعة هو ترومان نفسه الذي تبنته بعد ولادته شركة إنتاج ضخمة جعلته محورا لأطول برنامج واقعي في التاريخ.. كانت حياته منذ ولادته مجرد برنامج تلفزيوني (يدعى ترومان شو) يتابعه الملايين ويتم تصويره بكاميرات تم إخفاؤها في كل مكان (حتى في الحمام ومقود السيارة)..
أنا شخصيا لم أنس هذا الفيلم Trueman Show رغم مرور عقدين على إنتاجه.. أتذكره كلما شاهدت أحد برامج الواقع التي تستعرض حياة الناس وما يحدث داخل البيوت.. برامج واقع عفوية لا تملك سيناريو¡ ولا تخطيطاً¡ ولا ميزانيات ضخمة¡ ومع هذا تملك شعبية كبيرة¡ ونسبة مشاهدة عالية.. أصبح أفراد عائلة كارديشيان يعاملون كنجوم لمجرد أنهم خضعوا منذ عام 2007 لكاميرات تصور حياتهم بلا تحفظ (حتى حين قرر الأب تغيير جنسه إلى أنثى).. أصبحت الابنة كيم كارديشيان نجمة عالمية مشهورة تستلم 6 ملايين دولار مقابل (لا شيء) باستثناء موافقتها على تصوير حياتها اليومية..
وقبل هذه العائلة كان هناك برنامج يدعى "عائلة أميركية" استمر عرضه لمدة 12 عاما¡ كبر خلالها الأطفال وخانت الأم زوجها وتطلق الوالدان بعدها (وكل هذا تحت أنظار المشاهدين) وساهم نجاحه في ظهور نسخ مماثلة في معظم الدول..
الجديد في الموضوع -وحسب ما أراه هذه الأيام- هو تحول حياتنا بأكملها إلى برنامج "ترومان شو".. تجاوزناه حين خرجت الفكرة من أيدي شركات الإنتاج وتحولت إلى منافسات سمجة بين الأفراد.. تحولت حياتنا إلى مقاطع واقعية مصورة ينسجها كل إنسان حول نفسه.. ساهمت وسائل التواصل الحديثة في تحويل أشخاص عاديين إلى مشاهير ينافسون نجوم السينما والفن.. خلقت نجوما فارغين¡ ومشاهير مسطحين¡ لا يملكون موهبة ولا ثقافة ولا تميزاً في أي جانب.. منحتهم متابعين (لا يحلم بربعهم الأدباء والمثقفون) يعرفون عنهم كل شيء¡ باستثناء لماذا يتابعونهم بالضبط!!
على الأقلº بطل الفيلم لم يكن يملك قراره بنفسه¡ أما نحن فنملك قرارا بستر حياتنا¡ وحفظ خصوصيتنا¡ والابتعاد عن مستنقع الاستعراض¡ والنرجسية¡ وكشف الأسرار الشخصية..




إضغط هنا لقراءة المزيد...