تصدرت الخطابة بلاغيات العرب, بمضمون يتراوح بين عباءة القداسة¡ وصولجان الحكم, وظلت وعاء جاهزا من الممكن أن يفعل الأعاجيب فوق الرؤوس, وما يوازي الكرامات داخل العقول.
لكن في العصر الحديث سطت علي الخطبة بروتكولات المناسبات الرسمية, ونصبتها في مقدمة اللقاءات, متصدرة المنابر, متسيدة المؤتمرات, لكن بعد أن غطستها بماء الهشاشة والسذاجة, فطمست ملامحها, وقصقصت أجنحتها وحولتها إلى مكون عجيب لا نستطيع أن نسميه أو نحدد استعمالاته, عدا كونه فترة استراحة يستثمرها المستمعون في التحليق مع الأخيلة, أو الأحاديث الجانبية الهامسة .
تحتاج الشعوب إلى خطب وكلمات من قوادها أثناء تحولاتها المصيرية والمفصلية, ولكن يظهر المأزق عندما تغدو سمة بروتكولية يتطفل عليها الجميع, ويصبح الكل يمارس عبرها مغامراته اللغوية وحذلقاته اللفظية, التي على الغالب تمنى بالفشل !! وليس ذنبه¡ فهو يتلو ما كتبه له رئيس مكتبه¡ أو مسؤول العلاقات العامة لديه, كتبها من دون روح¡ أو حرارة¡ أو عناية بالتحولات الجمالية للخطاب اللغوي, فباتت رصفا لمجموعة جمل نمطية مستهلكة يرى مدير المكتب أنها تناسب وقار المناسبة ومكانة المسؤول.
بينما المسؤول فوق المنبر منشغل بتطبيق الحكمة السقراطية الشهيرة (تحدث كي آراك)¡ فيبدأ كلمته بديباجة من الثناء¡ والدعاء¡ والتزلف لمرؤوسيه, وأما بقية الخطاب فهو تحصيل حاصل, جمعه مدير المكتب من خطابات سنوات سابقة مع بعض التعديلات الطفيفة, أو بجولة سريعة في أرجاء الشيخ قوقل¡ جملة من هنا¡ ومفردة من هناك.
سمة الحفل المدرسي, كيف تسرب لجميع المناسبات الرسمية لدينا بصورة مزمنة, فازدحمت الفقرات بكلمة المدير/ الوكيل/ الآباء/ المتفوقين/ المرشد الطلابي....ووو , في نمطية بروتكولية قليل من ينجو منها .
وياليت أن المسؤول يكتفي بأربعة أسطر مرتجلة تلقائية يثني فيها على مرؤوسيه, ويشيد بالمناسبة, ويشكر الحضور والمنظمين, بل هي مطولات ورقية, تقلب أمام أعين المستمعين الذين يطالعون عدد صفحاتها برعب.
أمضى بلغاء العرب ردحا طويلا من الزمن يفاضلون بين الإيجاز والإسهاب, وبين الاختصار والإطناب, ولكنهم قد خلصوا في النهاية أن الإيجاز معجز لغوي, وزياد بن أبيه وقع خطاب تظلم طويل رفع له, بكلمة واحده هي ....كُفيت
وفي وقتنا الحاضر¡ ما الحل مع الرقاع الورقية والمطولات, وثقافة الصورة الماكرة, وعروضات التقنية تعرف بأنها اختلست من المنابر الخطابية سطوتها وصولجانها¿¿
ويبدو أنني بدوري يجب أن أتوقف عن الإسهاب والإطناب وأن أنهي مقالي هنا...حتى لا أصبح مثل الذين أشار لهم الجاحظ (ما رأيت أحدا يعيب الناس إلا لفضل ما به من عيوب).




إضغط هنا لقراءة المزيد...