الخوف كابوس ثقيل تجب مواجهته وتفكيك حلقاته¡ فبعضه رواسب طفولة¡ وبعضه وهم تخيلناه وربما صنعناه وروجناه¡ وما استقر منه صار مرضاً مزمناً يدعى «الخوف»..
تتراكم الأسئلة¡ وتطفو الفكرة¡ إلا أن أصابعه تتردد أن تكتب كلمة. كلما أوغل في هذا العالم اكتشف زيفاً لا طاقة له به. يلح عليه فقط الزمن الذي يتسرب بين شقوق العمر..
في منتصف العقد الخامس¡ يترأى له شريط الحياة¡ كل التفاصيل بين عينيه.. بما يكفي لاستذكار كل شيء¡ أما عالمه الآخر فهو واسع ممتد منذ الخليقة¡ ولازالت أسئلة الحيرة تقذفه يمنة ويسرة.
عندما كان غض الإهاب كان حلمه أن يكف قلبه رجفة من الخوف والمجهول.. وعندما استوى رجلاً لازال بعض الخوف ينتابه¡ عدا أوقات يسكن فيها للهدوء ويستغرق في أحلام بعيدة أو أوهام مستحيلة..
كان في طريقه اليومي لمدرسته يستعيد صوت معلمه الأجش وهو يلوح بالعصا.. ولما كبر قليلاً كان يثير ذعره شرطي عابر.. ولما استوى رجلاً لم تتغير الصورة كثيراً.. فهناك من لايزال يحمل هراوة يلوح بها في وجه الجميع..
فتحت له الأبجدية في مرحلة مبكرة عالماً لم يره¡ كانت المتعة الوحيدة التي يطل منها على عالم لا يراه.. عالم مبتسم ملون.. مجلات.. صحف.. صور نساء جميلات.. ورجال بحلل زاهية وأجسام خارقة.. ومفردات تسللت إلى صفحة بيضاء تنقش عليها لأول وهلة كلمات لم يعتد على سماعها.. لكنه أصبح يتمتع باستعادتها وكأنه على خشبة مسرح كبير يكاد يسمع تصفيق المعجبين.
كان يسرقه ذلك النهم المبذول والممنوع.. كل ذلك وهو قابع في عالم زرع الخوف في قلبه منذ المجيء.. فحمل عبئه وهو يحثو تراب السنين.
لم يكن عالم الحرف حينها مكتبة ومرشداً وكتاباً..لم يكن شيئاً من هذا. فلا البيت الصغير فيه قارئ واحد أو حتى كتاب واحد سوى كتاب الله.. إنه مدين لمرحلة تعلم فيها كيف يتهجى كلمة شاردة في قاموس الحياة الكبير.. دون أن يفطن ما حوله إلى عالمه المغلق الرحب الوثير!!
وكان يهرب من عالمه الصغير القلق¡ الذي لا يملك فيه حولاً ولا قوةً¡ إلا عالم آخر بمفرداته الغريبة وصخبه الملون المبهر.. وقد لا يحيط بها وعياً¡ إلا أنه يصر على استعادة ما قرأه هناك ليرسم على ورقة بيضاء دوائر الاسئلة طيلة نهاراته..
كان ثمة شيء يستدعيه لدائرة يتراجع فيها الخوف والقلق. عرف فيما بعد أنها تدعى دائرة الوعي¡ لتبدو للحياة صور أخرى لم يتذوقها بعد.. إلا خيالاً بعيداً.. إلا أنه خيال مبهر وجميل.
عندما كان صغيراً حشو رأسه بأساطير الغول والجنية.. حتى أصبح الظلام أشباحاً ورعباً لا يطيقه.. وعندما صار صبياً كان كل صباح يخفق قلبه بشدة¡ ويمتقع لونه لأن معلماً لا تهدأ نفسه قبل أن يصفع بضع تلاميذ بائسين وهو يلوح بعصاه.. وعندما يخرج من باب تلك المدرسة كان يحاذر بخوف من تلاميذ أشقياء ينفسون عما أصابهم في المدرسة من جلد وضرب وسخرية بالتقوي على آخرين ممن يحاذرون صراعهم اليومي.. لكن كيف الخلاص من استفزازهم وتحديهم.. وفي المرة الوحيدة التي حاول فيها التخلص من الشعور بالخوف ووقع في فخ الاستفزاز.. عاد للبيت وهو ممزق الثياب¡ وقد استحال وجهه خريطة من خربشة دامية في مواجهة غير متكافئة.. وربما كانت تلك الحادثة عنواناً مبكراً لعالم التحديات الذي عليه أن يدفع ثمن الانخراط فيه أو ينطوي في عالمه البعيد.
وعندما تخلص من أوحال الأساطير¡ وعندما لم تعد مسألة القادم بكل أشكاله وألوانه وهواجسه وتحدياته.. قلقاً يكابده¡ حيث أدرك في مراحل أخرى أن الحياة أقل شأناً ليقلق من أجلها¡ كان ثمة إلحاح ذهني للبحث عن طريق لعالم أفضل.. أو قل الصورة الذهنية التي يحتضنها لذلك العالم الأفضل.. أليست هذه أم التحديات التي يخوض فيها الحالمون أبداً¿
وإذ يتخلص من الخوف ومن رواسب طواها الزمن.. تظهر له أشياء أخرى¡ فالخوف كائن يتوالد بأشكال ومظاهر وعناصر تجدد ذاتها في كل مرحلة. فالخوف من أشباح الظلام تحول إلى خوف من أشباح البشر.. فوظيفة التشبيح جزء من أدوات السيطرة والإخضاع على كل المستويات.. وإذا كان الخوف فيما مضى على الذات فإنه تحول إلى خوف على المرتبطين بهذه الذات.. وإذا كان الخوف في مراحل من العمر مما يأتي به المستقبل من تطورات سلبية فإنه تحول إلى خوف من الحاضر ذاته¡ حيث ثمة ما يوحي بأن في الأفق مخاطر محدقة.. ومفاجآت غير سارة.
ويتلون هذا المارد المدعو "الخوف". فهو إيجابي إن كان ثمة قدرة على مواجهته بعقل يقظ وأدوات كافية ومناسبة.. وهو حالة سلبية مرضية إذا سيطر حد التعطيل والانكفاء.. وهو أيضا أداة تستخدم للضبط والإخضاع.. كما هو جريمة إذ اُفتعل بحق طفل أو بريء أو عقل يبحث عن الخلاص..
لا شيء يعطل قدرات الإنسان ويقمع ملكاته أكثر من "الخوف"¡ ولا شيء يأكل في صفاء النفس البشرية كما هو التخويف من أوهام أو أشباح أو هراوة ثقيلة..
الخوف كابوس ثقيل تجب مواجهته وتفكيك حلقاته¡ فبعضه رواسب طفولة¡ وبعضه وهم تخيلناه وربما صنعناه وروجناه¡ وما استقر منه صار مرضاً مزمناً يدعى "الخوف.




إضغط هنا لقراءة المزيد...